اثنان من منشورات الفيلسوف جيل دولوز المبكرة لدى ديفيد هيوم وفريدريك فيلهليم نيتشه والفلسفة، حيث كانتا دراسات تاريخية للمفكرين الذين وإن بطرق مختلفة أكدوا على القوى المحدودة للعقل البشري وسخروا من ادعاءات الفلسفة التقليدية تمييز الطبيعة النهائية للواقع.
الفلسفة التجريبية بين هيوم ودولوز:
أول منشور لدولوز التجريبية والذاتية في عام 1953 هو كتاب عن هيوم، الذي يُعتبر عمومًا التجريبي البريطاني الأكثر صرامة وفقًا لنموذج البيانات الحسية العام، ومع ذلك فإنّ دولوز يعتبر هيوم أكثر راديكالية مما يعتبره عادة، وفي حين أنّ هذا النص يقرأ بعناية أعمال هيوم وخاصة مقالة الطبيعة البشرية فإنّ الصورة التي تظهر هي شخصية مميزة للغاية.
حسب وصف دولوز يعتبر هيوم قبل كل شيء فيلسوفًا للذاتية، وهمه الأساسي هو تأسيس الأساس الذي يتشكل عليه الموضوع، كما تكشف جميع الحجج المعروفة حول العادة والسببية والمعجزات عن سؤال أكثر عمقًا، فإذا لم يكن هناك شيء متعالي فكيف لنا أن نفهم الذات الخلاقة المدركة لذاتها، التي يبدو أنّها تحكم الطبيعة التي نشأ منها بطريقة ما؟ ويجادل دولوز إذن أنّ العلاقة بين الطبيعة البشرية والطبيعة هي الشغل الشاغل لهيوم.
يطور دولوز هذه الحجة من خلال التأكيد بدقة على عكس القراءة التقليدية لهيوم حيث وفقًا لهيوم وكذلك كانط فإنّ مبادئ المعرفة ليست مشتقة من التجربة، ولكن في حالة هيوم لا يوجد شيء متسامي لأنّ هذه المبادئ هي ببساطة مبادئ من طبيعتنا.
اقترح كانط عمليات متجاوزة للفئات من أجل جعل التجربة ممكنة، منتقدًا هيوم لاعتقاده أنّه يمكن أن يكون لدينا معرفة موحدة بالتدفق التجريبي الذي نتلقاه بشكل سلبي فقط، ولكن عند قراءة دولوز لم يفترض هيوم أنّه لا توجد عمليات موحدة في العمل وعلى العكس من ذلك، فالفرق هو أنّ هذه المبادئ طبيعية بالنسبة لهيوم، ولا يعتمدون على افتراض البنى المسبقة للتجربة.
يتم حل مسألة الموضوع من قبل هيوم وفقًا لدولوز من خلال إنشاء عدد من المفاهيم الأساسية لدى كل من الارتباط والعقيدة والعلاقات الخارجية، والرابطة هي مبدأ الطبيعة الذي يعمل من خلال إقامة علاقة بين شيئين، ويتأثر الخيال بهذا المبدأ لخلق وحدة جديدة، والتي يمكن استخدامها لاحقًا للوصول إلى استنتاجات حول الأفكار الأخرى التي تشبهها هذه الوحدة أو ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا أو يبدو أنّها تسببها.
إذا أخذنا في الاعتبار المثال التقليدي للكرات على طاولة البلياردو فإنّ عملية الارتباط تسمح للموضوع بتشكيل علاقة سببية بين كرة والأخرى، بحيث في المرة التالية التي تتلامس فيها كرة مع أخرى توقع أن يتم إنشاء الكرة الثانية التي ستتحرك، وهكذا اعتبر هيوم بالنسبة لدولوز أنّ العقل هو نظام من الجمعيات وحده وشبكة من الميول، فالعقل الذي يتأثر بالمبدأ الطبيعي للارتباط يصبح طبيعة بشرية من الألف إلى الياء، فتتشكل الذاتية التجريبية في العقل تحت تأثير المبادئ التي تؤثر عليه، وبالتالي فإنّ العقل لا يتمتع بخصائص موضوع موجود مسبقًا.
لا تمثل هذه الجمعيات الخبرة بالمعنى الأساسي فحسب بل تصل إلى أعلى مستوى من الحياة الاجتماعية والثقافية، وهذا هو الأساس لرفض هيوم لنموذج العقد الاجتماعي للمجتمع لصالح الاتفاقية وحدها، فالأخلاق والمشاعر والسلوك الجسدي وكل عناصر الذاتية هذه مفسرة، وليس من خلال الهياكل التجاوزية مثل ما سيقترحه كانط ولكن النشاط الجوهري للارتباط.
بمجرد أن تصبح هذه البنية المعتادة للذات في مكانها كما يقترح دولوز فإنّ مفهوم هيوم عن الإيمان يدخل حيز التنفيذ والذي يعد جزءًا أساسيًا من الطبيعة البشرية، كما يصف الطريقة البشرية بشكل خاص لتجاوز المعطى، وعندما نتوقع أن تشرق الشمس غدًا فإننا لا نفعل ذلك لأننا نعلم أنّها ستشرق ولكن بسبب اعتقاد قائم على عادة.
وهذا بدوره يعكس التسلسل الهرمي للمعرفة والاعتقاد والنتائج بالنسبة لدولوز في تحويل كبير للنظرية إلى ممارسة، وكل فعل إيماني هو تطبيق عملي للعادة دون أي إشارة إلى القدرة المسبقة على الحكم، وهكذا فإنّ الإنسان ليس معتادًا على قراءة دولوز فحسب بل أيضًا مبدعًا حتى في أكثر لحظات الحياة دنيوية.
أخيرًا يصر دولوز على أنّ أحد أعظم مساهمات هيوم في الفلسفة الحديثة هو إصراره على أنّ جميع العلاقات خارجية بالنسبة لشروطها، وهذا هو جوهر موقف هيوم المناهض للتسامح، ولا يمكن للطبيعة البشرية أن توحد نفسها فلا توجد (أنا) تقف أمام التجربة، ولكن فقط لحظات من التجربة نفسها وغير مرتبطة ولا معنى لها دون أي علاقة ضرورية ببعضها البعض.
فالوميض الأحمر والحركة والعاصفة من الرياح يجب أن تكون هذه العناصر مرتبطة خارجيًا ببعضها البعض لخلق إحساس بالشجرة في الخريف، وفي العالم الاجتماعي تشهد هذه العوامل الخارجية على طبيعة الحياة المهتمة دائمًا بالفعل، فلا توجد علاقة ضرورية أو تحكمها قوانين محايدة لذلك فإنّ كل علاقة لها دافع موضعي وسلبي، وإنّ الطرق التي تتشكل بها العادات تشهد على الرغبات الموجودة في قلب محيطنا الاجتماعي، فالذاتية كما يصفها دولوز من خلال قراءته لهيوم هي مفهوم عملي وعاطفي وتجريبي ويقع مباشرة في قلب التقليدي أي الاجتماعي.
الفلسفة التجريبية بين نيتشه ودولوز:
بصرف النظر عن سبينوزا فإنّ نيتشه هو أهم فيلسوف لدى دولوز، ويظهر اسمه والمفاهيم المركزية التي ابتكرها دون استثناء تقريبًا في جميع كتب دولوز، وسيكون من الصحيح أيضًا أن نقول إنّه يقرأ كل من سبينوزا ونيتشه معًا واحدًا من خلال الآخر، وبالتالي يسلط الضوء على الاستمرارية العميقة لفكرهم.
كان العمل الأكثر أهمية الذي قام به دولوز مع نيتشه هو دراسته المؤثرة للغاية نيتشه والفلسفة، وهو أول كتاب في فرنسا يدافع بشكل منهجي عن أعمال نيتشه ويفسرها، ولا يزال يشتبه في الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا النص ولا يزال جيدًا للغاية من قبل فلاسفة آخرين بما في ذلك جاك دريدا وبيير كلوسوفسكي الذي كتب الدراسة الفرنسية الرئيسية الأخرى عن نيتشه في النصف الثاني من القرن الماضي.
بينما يتعامل نيتشه والفلسفة مع أهداف نيتشه الجدلية فإنّ أصالتها وقوتها تكمن في عرضها المنهجي للعناصر التشخيصية لفكره، وفي الواقع أحد الانتقادات الموجهة لهذا النص هو أنّه يفرط في منهجية المفكر والكاتب الذي يقاوم أسلوب كتابته بشكل علني مثل هذا النهج الموجز، ولكن بالنسبة لدولوز كانت إحدى السمات المميزة للقراءات السيئة لنيتشه أنّهم اعتمدوا على قراءة غير فلسفية، وإما رؤيته ككاتب يحاول تأكيد نماذج فكرية أخرى على الفيلسوف أو بشكل أكثر شيوعًا كرجل ظلامي أو مجنون (بدائي) ليس لكتابه أي تماسك أو قيمة.
نيتشه بالنسبة لدولوز يطور أعراضًا بناءً على تحليل القوى الذي يكون مفصلاً وصارمًا ومنهجيًا، ويجادل بأنّ أنطولوجيا نيتشه أحادية وأحادية القوة، حيث هذه القوة بدورها ليست سوى قوة تأكيد، لأنّها لا تعبر إلّا عن نفسها وعن نفسها إلى أقصى حد، وهذا يعني أنّ القوة تقول نعم لنفسها، وتبدأ قراءة دولوز لنيتشه من هذه النقطة وتفسر كل تصنيف نيتشه النقدي للنفي والحزن وقوى رد الفعل والانفعال على هذا الأساس، والأساس الجدلي لعمل نيتشه بالنسبة لدولوز وموجه إلى كل ما من شأنه أن يفصل القوة عن العمل على أساسها الخاص أي عن تأكيد نفسها.
فلا توجد قوة واحدة بل قوة عديدة ويشكل اللعب والتفاعل فيها أساس الوجود، ويجادل دولوز بأنّ العديد من الاستعارات العدائية في كتابات نيتشه يجب تفسيرها في ضوء الأنطولوجيا التعددية الخاصة به، وليس كمؤشرات على نوع من العدوانية النفسية، إذن فإنّ أنطولوجيا نيتشه تحتفظ بالمرونة والاعتماد على الاختلاف بينما تظل أحادية، وهكذا فهو بالنسبة لدولوز يوصف بأنّه مفكر مناهض للفلسفة المتعالية.
توضح قراءة دولوز لنيتشه مدى رفضه للصورة التقليدية أو العقائدية للفكر، والتي تعتمد على الانسجام الطبيعي بين المفكر والحقيقة ونشاط الفكر، ولا يرتبط الفكر بشكل طبيعي بالحقيقة على الإطلاق بل هو بالأحرى فعل إبداعي وفعل مؤثر وقوة على القوى الأخرى، وليس هناك مجال لرؤية الحقيقة على أنّها عمومية مجردة في وصف دولوز لنيتشه، ولكن بدلاً من ذلك لرؤية الحقيقة نفسها كجزء من أنظمة القوة كمسألة قيمة، ويجب تقييمها والحكم عليها بدلاً من التصرف الفطري.
مرة أخرى في نيتشه نواجه مشكلة اعتبار الفيلسوف الذي يُنظر إليه عمومًا على أنّه غريب تمامًا عن تقليد الفكر التجريبي باعتباره تجريبيًا، كما هو الحال مع سبينوزا فإنّ قراءة دولوز لنيتشه كما يشير هو نفسه، وتعتمد على توصيفه للفكر التجريبي كرفض للفكر المتسامي في كل من الأنطولوجيا والفكر وما يترتب على ذلك من تأكيد للفكر كإبداع.