اقرأ في هذا المقال
“الناس الذين تسحقهم القوانين ليس لديهم أمل سوى التهرب من السلطة، إذا كانت القوانين هي أعداءهم فسيكونون أعداء للقانون، وأولئك الذين لديهم الكثير من الأمل وليس لديهم ما يخسرونه سيكونون دائمًا خطرين.”
إدموند بورك
صعوبة تفسير فلسفة بورك السياسية:
من الواضح أنّه لا “الروح الصوفية” ولا “اللاعقلانية” تميز بورك بشكل مفيد، ويمكن اعتبار هذه الأمثلة المتطرفة من الثورة الفرنسية أو الامريكية والتي في نفس الوقت كانوا يعانون من صعوبات تفسيرية، في حين أنّ فكر بورك لم يفتقر أبدًا إلى المترجمين الفوريين من يومه إلى يومنا هذا، إلّا أنّهم لم يجلبوا على وجه العموم الإصرار المشترك للبصيرة التاريخية وقوة الفهم المفاهيمي المطلوبين لإنصافه.
ومن ثم فقد عانى مصيرًا مثيرًا للسخرية لمن حث على اتساع الفكر ودقته، وهذا يعني أنّه قد برز كمتحدث رسمي لعدد محدود جدًا من النقاط أو كمنشغل بعدد محدود من الموضوعات، وبدأ هذا النوع من العلاج في القرن التاسع عشر، عندما تم استدعاء بورك باعتباره ترياقًا لثقة الثورة الفرنسية من قبل المفكرين الليبراليين الذين قدروا مبادئها ورأوا ضيقهم وتطلبوا حسًا بالتطور التاريخي لوضعهم بشكل صحيح في موقع قابل للحياة.
والمجتمع المدني استمر عندما حاول ماثيو أرنولد معاملة بورك باعتباره (ما قبل الحكم المحلي) المتحدث باسم جلادستونيان بشأن أيرلندا، وذهب إلى أبعد من ذلك في القرن العشرين عندما تم الضغط على بورك للعمل كعامل مضاد للثورة في قضية مناهضة الشيوعية وعندما فجر الحادي والعشرين كان البعض يتعامل مع بورك على أنّه مؤيد لما بعد الحداثة.
لم يكن بإمكانه هو نفسه أن يشتكي من أنّ عمله قد تم استخدامه عمليًا، ولكن يظل صحيحًا أنّ العدالة الأكاديمية لم تتحقق بعد، وكانت الفصول والمقالات حول الموضوعات الفردية في كتاباته أكثر منطقية بشكل عام من محاولات التفسير العام والتي تركز عادةً على موضوع أو موضوعات مختارة، أو تخضع فكر بورك لها أو لهم وبالتالي تعطي الانطباع (عن قصد أو خلاف ذلك) أنّ هذا هو بورك كله أو على أي حال أنّ هذا هو ما يهمه، وتتمثل إحدى الاستجابات لهذا الموقف في التركيز بشكل أساسي على سرد القصة ومن المثير للاهتمام أنّ عددًا من الأعمال الحديثة سلكت هذا المسار.
في مهاجمته للثورة في فرنسا أنشأ بورك معرضًا للمحتالين للسياسيين الفرنسيين ووزعه أيضًا بعدد كبير من المفكرين الفرنسيين، ومع ذلك فإنّ الشخصيات التي بدت على أنّها محتالة كانت في الغالب مجرد رجال من القش محشورين وفقًا لتحيزات الجمهور البريطاني، والأهم من ذلك بالنسبة لأهدافنا أنّ لوم بورك على الفلاسفة ينسب إليهم تواطؤهم مع أسلوب الفكر الذي وضع مجموعة محدودة من المبادئ البسيطة كمعيار للسياسة والتي كانت غير كافية على الإطلاق لتلبية الاحتياجات المتصلة والمتنوعة للإنسان والطبيعة في ظل الظروف الحديثة.
فضل بورك التأكيد على أنّ العديد من المبادئ والتفكير العملي للجمع بينها كانت ضرورية لتلبية هذه الاحتياجات وبالتالي للحفاظ على التحسين والتأكيد أيضًا على أنّ مثل هذه التسهيلات تنطوي على نشاط عملي أكثر بكثير من التصميم التأملي.
وبالمقابل فإنّ كتاباته الخاصة لا تتطور إلى فلسفة سياسية بل بالأحرى أسلوب سياسي يحتوي في جوهره على عناصر فلسفية وهو أسلوب يشير ضمنيًا إلى أنّ الفلسفة السياسية لم تكن مجدية كنوع من المعرفة وإذا كانت كذلك بالتأكيد ليست كافية لمهمة “الفيلسوف في العمل”.
الأخير على الأقل كما جسده بورك نفسه عندما ذكر الفلسفة السياسية افترض أنّها عملية للغاية، ولهدفها تنظيم الرأي لتحقيق نتائج سياسية جيدة ومنع السيئ منها، كتب: “لقد كان الموضوع الأساسي العظيم للفلسفة التأملية والعقائدية تنظيم الرأي”، و”إنّ الهدف العظيم للفلسفة السياسية هو الترويج لما هو سليم واستئصال ما هو مؤذ والذي يميل بشكل مباشر إلى جعل الرجال مواطنين سيئين في المجتمع وجيران مؤذيين منه”.
الفلاسفة التحليليين وفهم فلسفة بورك:
يؤكد هذا الأسلوب في التفكير على أهمية الجمع بين مجموعة واسعة من المبادئ ولا بد من الذكر أنّ المبادئ مهما كانت عديدة ليست سوى عنصر واحد في السلوك المرضي للممارسة، ولا يمكن أن يكون هناك شك في أنّ التحليل كان متورطًا في إجراءات بورك حيث قيل: “دع هذا الموقف يتم تحليله”، وكما وجه مجلس العموم بشكل نقدي في عام 1794 قائلاً: “لأنّ التحليل هو العدو القاتل لجميع التصريحات”.
وعلى الرغم من أنّ بورك يمكنه بالتأكيد إجراء تحليلات فعالة للأفكار والكلمات حتى بعد أكثر من عشرين عامًا في وستمنستر Westminster كما توضح رسالته إلى السير هرقل لانغريشي في عام (1792) إلّا أنّ لهجته تكمن بشكل أكبر في ضرورة ربط الأفكار ببعضها البعض وإدراج العناصر غير المفاهيمية في أي معالجة للسياسة تطمح إلى شرعية فكرية وعملية.
ولا يوجد شيء في أسلوب عمل الفلسفة يركز على التحليل الذي يتعارض منطقيًا مع هذه الإجراءات، ومع ذلك فإنّ المزاج العقلي الذي يصاحب أحيانًا هذا الأسلوب من الفلسفة هو مناقض لبورك في حين أنّ هناك الكثير في الآراء المعاصرة حول السياسة بما في ذلك تلك التي يتبناها على الأقل بعض الفلاسفة التحليليين والتي كان سيجدها ساذجة بشكل خطير، ومن بين هؤلاء الاعتقاد في استمرار السيادة الشعبية (المصطلح الفني الحديث لهذا هو “الديمقراطية”) وليس السيادة البرلمانية سوى المثال الأكثر وضوحًا.
وإذا كان من غير المحتمل في الوقت الحاضر أن يكون بورك محبوب بعض الفلاسفة وبعض النقاد، حيث أنّه لا يزال أقل من أولئك الذين يفترضون أنّه عند مناقشة عدد صغير من المبادئ فإنّهم يقدمون إرشادات توجيهية وكافية لتسيير السياسة، وحتى أقل من أي شخص يفترض أنّه من المناسب منطقيًا الادعاء بأنّ “مبدأً واحًدا بسيطًا للغاية يحق له أن يحكم تمامًا تعاملات المجتمع مع الفرد بطريقة الإكراه والسيطرة ” أو أي مسألة أخرى.
سبب رفض المفكرين لفلسفة بورك:
إنّ الطابع المعقد للأفكار وعلاقاتها مع بعضها البعض والحاجة إلى فهم الممارسة من حيث هذه العلاقات وإدارتها مع الانتباه إلى الروابط المعتادة بين أفكار الناس وأنشطتهم توحي بنوع مختلف من التفكير، لذا فليس من المستغرب أنّ يتم تجاهل بورك بهدوء من قبل العديد من المفكرين الحديثين أو رفضه بإيجاز من خلال وصفه بأنّه “محافظ” ولكن من الأهمية بمكان أنّه وجد العديد من المعجبين بين أولئك الذين نجحوا في سلوك السياسة العملية، في حين أنّ بورك كان أول من أشار إلى أنّ استنتاجاته المحددة تنتمي إلى زمان ومكان فإنّ أسلوبه الفكري هو أسلوب يحتاج أي تفكير جاد حول السياسة سواء كان انعكاسيًا أو عمليًا إلى الانخراط فيه.