فلسفة ديفيدسون ومعاداة الواقعية

اقرأ في هذا المقال


بعد سبعينيات القرن الماضي التقطت فلسفة دونالد هربرت ديفيدسون للعقل التأثيرات من أعمال شاول كريبك وهيلاري بوتنام وكيث دونيلان، حيث جميعهم اقترحوا عددًا من الأمثلة المضادة المزعجة لما يمكن وصفه عمومًا بالنظريات الوصفية للمحتوى، وهذه الآراء التي نشأت تقريبًا في نظرية الأوصاف لبرتراند راسل واعتبرت أنّ الإشارة إلى الاسم -أي الشيء أو الشخص الذي يشير إليه هذا الاسم- ويتم تحديدها من خلال المعتقدات التي يحملها الشخص هذا الكائن.

التثليث والواقعية:

لنفترض أنّ المرء يعتقد أنّ أرسطو أسس المدرسة الثانوية وأنّ أرسطو علم الإسكندر الأكبر، فقد يقول راسل أنّ معتقدات هذا الشخص تدور حول أي شيء يجعل العدد الأكبر منها صحيحًا، وإذا قام شخصان بتعليم الإسكندر ولكن شخصًا واحدًا فقط أسس مدرسة ليسيوم، فإنّ المعتقدات تدور حول الشخص الذي فعل الأمرين معًا، وكريبك وآخرون جادل بأنّ هذه لم تكن نظرية يمكن الدفاع عنها، وأنّه في الواقع من أو ماذا كانت معتقدات الشخص كانت في جزء كبير (أو كليًا) مسألة كيفية اكتسابهم لتلك المعتقدات، وتلك الأسماء وكيف كان ذلك يمكن تتبع استخدام هذه الأسماء سببيًا من مراجعها الأصلية إلى المتحدث الحالي.

التقط ديفيدسون هذه النظرية وتناول عمله في الثمانينيات المشاكل المتعلقة بربط معتقدات الشخص الأول بمعتقدات الشخص الثاني والثالث، ويبدو أنّ معتقدات الشخص الأول (أنا جائع) يتم اكتسابها بطرق مختلفة تمامًا عن معتقدات الشخص الثالث (اعتقاد شخص آخر بأنّه جائع)، واقترب ديفيدسون من هذا السؤال من خلال ربطه بسؤال آخر وهو: كيف يمكن لشخصين أن يكون لهما معتقدات حول نفس الشيء الخارجي؟ ويقدم في الجواب صورة للتثليث حيث المعتقدات حول الذات والمعتقدات حول الآخرين والمعتقدات حول العالم تنشأ معًا.

ويمكن القول إنّ العديد من الفلاسفة عبر التاريخ قد تعرضوا لإغراء اختزال نوعين من هذه الأنواع من المعتقدات والمعرفة إلى النوع الآخر، حيث اعتقد ديكارت وهيوم أنّ المعرفة الوحيدة التي يبدأ بها المرء هي معرفة الذات، ويعتقد بعض الوضعيين المنطقيين (وبعضهم قد يقول فيتجنشتاين أو ويلفريد سيلارز) أنّ الناس يبدأون بمعتقدات حول العالم الخارجي فقط.

ويمكن القول إنّ فريدريش شيلينج وإيمانويل ليفيناس أصرّا على أنّ الناس يبدأون بمعتقدات عن الآخرين فقط. من وجهة نظر ديفيدسون، وليس من الممكن أن يمتلك الشخص نوعًا واحدًا فقط من هذه الأنواع الثلاثة من المحتوى العقلي، كما يجب على أي شخص لديه معتقدات بأحد هذين النوعين أن يكون لديه أيضًا معتقدات من النوعين الآخرين.

الحقيقة والتنبؤ والواقعية:

يؤكد ديفيدسون على الطابع الشامل للعقلية سواء من حيث الاعتماد المتبادل الذي يحصل بين أشكال المعرفة المختلفة وكذلك الطابع المترابط للمواقف والمواقف والسلوك، وكما أشار في بعض الأحيان إلى موقفه على أنّه يتضمن نظرية التماسك للحقيقة والمعرفة، وذلك في نظرية التماسك للحقيقة والمعرفة في عام 1983، ومع ذلك فإنّ ديفيدسون ليس متماسكًا بأي معنى قياسي حول الحقيقة أو المعرفة، كما أنّه على الرغم من كل ما يتبناه من نهج تارسكي للمعنى، فإنّه لا يتبنى نظرية تطابق الحقيقة وفي الواقع ينكر أنّ نظرية الحقيقة الترسكية هي نظرية مطابقة بأي معنى تقليدي.

بشكل عام يتجنب ديفيدسون محاولة تقديم تفسير لطبيعة الحقيقة، ومحافظًا على أنّ الحقيقة هي مفهوم مركزي تمامًا لا يمكن اختزاله أو استبداله بأي مفهوم آخر، ونظرًا لأنّه يعتبر الحقيقة تنتمي إلى الجمل أو العبارات وليس إلى الافتراضات بأي معنى فلسفي مهم، فهو مؤكد بشكل خاص في رفض فكرة الافتراض كمفهوم نظري أو توضيحي، وينكر ديفيدسون أنّ الحقائق يمكن فهمها على أنّها خالدة أو أبدية (أو على الأقل ليست أكثر من اللغات أو الجمل نفسها).

إنّ الطريقة الوحيدة لتعريف الحقيقة كما يراها ديفيدسون هي من خلال نظرية الحقيقة الترسكية، وهذه النظرية ليست تعريفًا للحقيقة بأي معنى غير مشروط، ولكنها فقط تعريفًا للحقيقة كما تنطبق في لغة معينة.

من الأفضل النظر إلى استخدام ديفيدسون لمفهوم التماسك ليس كطريقة لفهم الحقيقة، بل على أنّه يعكس التزامه بالطابع العقلاني والشامل أساسًا للعقل، كما أنّه يرتبط برفض ديفيدسون لتلك الأشكال من التأسيسية المعرفية التي من شأنها أن تحاول ترسيخ المعرفة أو الاعتقاد في الأسباب الحسية للاعتقاد، ويمكن للمعتقدات كما قد يتوقع المرء بالنظر إلى نهج ديفيدسون الشامل، وأن تجد دعمًا إثباتيًا فقط في المعتقدات الأخرى.

وبالمثل فإنّ أفضل طريقة لفهم استخدام ديفيدسون لمفهوم التطابق في بعض الأحيان، ليس على أنّه توفير أي توضيح مباشر لطبيعة الحقيقة، بل على أنّه مشتق من التزامه الخارجي بفكرة أنّ محتوى الإيمان يعتمد على الأسباب الدنيوية للاعتقاد، ففي ورقة العمل الفلسفي لديفيدسون صحيح للحقائق (True to the Facts) يدافع ديفيدسون عما يقدمه هناك كشكل من أشكال نظرية المطابقة للحقيقة.

ومع ذلك لم يتنازل ديفيدسون لاحقًا عن الادعاء بأنّ وجهة نظره مطابقة للحقيقة، وهذا واضح بالفعل في هيكل ومحتوى الحقيقة، والتي تم دمج الكثير من المواد منها لاحقًا في الحقيقة، ولكن الحساب الوارد في صحيح للحقائق (True to the Facts) على أي حال بعيد تمامًا عما يؤخذ عادةً ليكون متضمنًا في أي نظرية مطابقة.

نظرية المعنى ومفهوم الحقيقة:

تعكس الاستراتيجية التي يستخدمها ديفيدسون فيما يتعلق بمفهوم الحقيقة نهجًا أكثر عمومية يسري طوال تفكيره، وبدلاً من محاولة اختزال المفاهيم الأساسية مثل الحقيقة إلى شيء آخر فإنّ ميله هو الاحتفاظ بالطابع البدائي لتلك المفاهيم وبدلاً من ذلك النظر في كيفية عملها داخل الهيكل الأكبر الذي ينتمون إليه، وفي هذا الصدد ديفيدسون هو انكماشى معتدل فيما يتعلق بمعظم مفاهيمه الأساسية.

وبالتالي فإنّ الاستراتيجية التي يتبناها ديفيدسون فيما يتعلق بالحقيقة هي نفس الإستراتيجية التي يتبناها فيما يتعلق بالمعنى، والتي لا ينبغي أن تفاجئنا بالنظر إلى الدور الذي يلعبه تارسكي، فالمعنى ينتمي في المقام الأول إلى الجمل ولا يمكن اختزاله في أي مفهوم آخر، ويتم تفسيره فقط بالرجوع إلى بنية لغوية أكبر، وعلاوة على ذلك فإنّ هذه الإستراتيجية هي أيضًا إحدى الاستراتيجيات التي يطبقها ديفيدسون على الموضوع الذي يشغل جزءًا كبيرًا من عمله الأخير، حيث استقصائه في مشكلة الإسناد أو وحدة الاقتراح.

فكيف لنا أن نوضح العلاقة بين الذات والشيء المسند منها في جملة تنبؤية معيارية مثل: “سقراط ميت”؟ المشكلة مثل المشكلة التي تنشأ عندما يحاول المرء استخدام مسند الحقيقة بشكل انعكاسي، وهي أنّ أي محاولة لتفسير العلاقة التنبؤية يبدو أنّها تؤدي إلى استدارة أو ارتداد، ويتمثل حل ديفيدسون في إنكار إمكانية تفسير الإسناد باللجوء إلى أي فكرة مسبقة عن الافتراضية، وبدلاً من ذلك يأخذ ديفيدسون الإسناد على أنّه أساسي وغير قابل للاختزال، وقابل للتفسير فقط من خلال نوع الهيكل الذي تكشفه نظرية المعنى على غرار تارسكي.

يكمن سؤال الحقيقة في قلب الجدل الواقعي أو المناهض للواقعية الذي كان ذات يوم مصدر قلق كبير للعديد من الفلاسفة الأنجلو أميركيين، وعلى الرغم من إصراره على ضرورة وجود مفهوم أساسي غير قابل للاختزال للحقيقة الموضوعية ورفضه لكل من المواقف المتشككة والنسبية، فقد تم استيعاب ديفيدسون بشكل مختلف في أوقات مختلفة ومن قبل نقاد مختلفين لكل من المعسكرين الواقعيين والمناهضين للواقعية.

ومع ذلك فإنّ الواقعية ومناهضة الواقعية غير مرضيتين بنفس القدر من وجهة نظر ديفيدسون، حيث لا يتوافق أي منهما مع الطابع الكلي والخارجي للمعرفة والاعتقاد، فالواقعية تجعل الحقيقة غير قابلة للوصول (بقدر ما تعترف بالاحتمال المشكوك فيه بأنّ حتى أفضل نظرياتنا المؤكدة حول العالم يمكن أن تكون كلها خاطئة)، في حين أنّ مناهضة الواقعية تجعل الحقيقة معرفية أكثر من اللازم وذلك لأنّها ترفض فكرة الحقيقة كموضوعية.

في هذا الصدد وكما أوضح هو نفسه فإنّه لا يرفض ديفيدسون فقط المقدمات المحددة التي تكمن وراء المواقف الواقعية والمناهضة للواقعية، بل يرى أنّ الخلاف بينهما خاطئ جوهريًا، ويعكس هذا سمة مميزة لتفكير ديفيدسون بشكل عام (وليس فقط من حيث صلته بالواقعية ومناهضة الواقعية)، أي مقاومته لأي تصنيف بسيط باستخدام الفئات الفلسفية القياسية في ذلك الوقت.

المصدر: Donald Herbert Davidson: Mind and ActionDonald DavidsonDonald Davidson (philosopher)Essays on Actions and Events. Oxford: Oxford University Press, 1980.Inquiries into Truth and Interpretation. Oxford: Oxford University Press, 1984.Subjective, Intersubjective, Objective. Oxford: Oxford University Press, 2001.


شارك المقالة: