التنمية في علم الاجتماع:
إن الاهتمام بقضية التنمية قديم جديد، فهو قديم من وجهة نظر علماء الاقتصاد الذين سبقوا غيرهم في دراسة هذه القضية، واجتهدوا في تقديم تفسيرات لعواملها ومعالجتها، وكذلك مشكلاتها وتحدياتها، لكن هذا الاهتمام قد اصطبغ خاصة في مراحلة الأولى، بالتركيز على الجوانب الاقتصادية وحدها، اعتماداً على ما لدى هؤلاء العلماء من بيانات وإحصاءات من ناحية واستفادتهم من كتابات الاقتصاديين الأول من ناحية أخرى.
وقد أجريت دراسات عديدة على تجارب بعض البلدان الأوروبية خلال القرنين الماضيين، كان الهدف منها الوقوف على أسلوب هذه البلدان في عبور التقليدية والتخلف في نظام الإنتاج والاقتصاد عامة، وكذلك في مجال العادات والتقاليد والقيم وأنماط السلوك والتفكير والتحول من كل هذا إلى مجتمعات تأخذ بأساليب إنتاجية متقدمة ومتحررة من قيود هذا التخلف ومعوقاته، وقد كان هدف هذه الدراسات هو الوصول إلى نظرية عامة تفسر النمو وعوامله وعوائقه، وتفيد في مواجهة مشكلات التخلف، وإحلال التنمية.
وقد توصل بعض هذه الدراسات إلى إعلاء شأن المتغيرات التكنولوجية، بينما انتهى البعض الآخر إلى القول بنوع من الحتمية الاقتصادية، واستخدام في الوقت نفسه مفهومات تنتمي إلى مجال الاقتصاد.
فلقد كانت ثروة الأمم تقاس بما لديها من ذهب وفضة ومعادن نفيسة، وقد أدرك علماء الاقتصاد أن مجرد اقتناء هذه المعادن دون توظيفها لخدمة التراكم لا يعني شيئاً في مجال النمو الاقتصادي، ومن هنا أيدو الدعوة للقضاء على الإقطاع في ضوء ما شاهدوه من جوانب الإنفاق البذخي الذي تتسم به هذه الطبقة، ومن منظور أنه فضلاً عن الاكتناز يهدد التراكم المنشود.
فقد ظلت قضية التنمية بمعنى تطوير الاقتصاد القومي، موضوعاً ينتمي إلى دراسات الاقتصاديين وأبحاثهم، حتى إذا جاء آدم سميث، وقدم كتابه الشهير بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم، وتضمن عناصر محدودة للتنمية منها:
- إحداث إحداث كتحولات هيكلية تتمثل في الإنهاء على الإقطاع.
- وضع سياسات للتراكم تمثل في الدعوة للادخار والهجوم على الإسراف.
- عمل تقدم تكتيكي يمثل في تجزئة العمل.
- أهمية وجود سياسة اقتصادية تقوم على إطلاق حرية رجال الأعمال، ومنحهم صلاحية دفع عجلة الإنتاج والاقتصاد القومي.
وقد ظهرت هذه الأفكار في ظل التغيرات الكبرى التي كانت تحدث في أوروبا الغربية، ومن أهمها ظهور دول تقوم على أساس الوحدة القومية في ظل الملكيات المطلقة دون تصفية كاملة للإقطاع، وفي الوقت ذاته اندلعت الثورة الفرنسية، وشهدت بداية القرن التاسع عشر انتشار الصناعة، وانتصار الطبقة الرأسمالية، وتصفية الإقطاع.
ومن هنا انتهت مشكلة التطوير في نظر الاقتصاديين الذين تأثروا بفكر الطبقة الصاعدة، واستقرت الفلسفة الاقتصادية في هذا الوقت على تقديس الفردية والنفعية، أو ما أطلق عليه النظام الطبيعي الذي يسمح للطاقات الإنسانية بغزو آفاق جديدة وقهرها، فالفرد أكثر الناس إدراكاً لمصالحة، وسوف يجتهد في قطاعات تحقق له ربحاً واضحاً، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير هذه القطاعات والتحول إلى قطاعات أخرى، وتبدأ دورة جديدة في العمل والإنتاج وهكذا.
وإذا ما حدثت هذه الظاهرة على مستوى الدول كأن تتخصص دولة في إنتاج معين، وأخرى في إنتاج آخر، فإنه سيحدث تطوير على مستوى العالم ككل يتمثل في تنمية كافة فروع الإنتاج، واستغلال كل الموارد الطبيعية، واستخدام كافة الأيدي العاملة، وسوف تدفع المنافسة المنتجين إلى السعي لخفض تكلفة الإنتاج من أجل زيادة الربح.
وبالتالي يتزايد الإنتاج وتقل التكلفة ويحصل المجتمع بشكل مستمر على كميات متزايدة من السلع الاستهلاكية التي تنخفض قيمتها بالتدريج وهذا يعني ارتفاع مستوى المعيشة على نحو اطراري دائم.
وقد أدت هذه الاهتمامات الجديدة إلى انتهاء عصر المدرسة الكلاسيكسية في الاقتصاد لتحل محلها المدرسة الكلاسيكية المحدثة، وهذه المدرسة تدور أبحاثها جميعاً حول الفرد كمنتج يسعى إلى أعلى ربح ممكن أو كمستهلك يسعى ﻷقصى إشباع ممكن لحاجاته، كذلك تدور حول فروض من أهمها سيادة المنافسة الكاملة بين المنتجين والحرية الكاملة في الإنتاج والعمل والاستهلاك، وعندئذ انصبت عناية الاقتصاديين على فكرة التوازن الاقتصادي.
وهذه الفكرة ترفض التنمية والتطوير؛ ﻷنه التوازن يعني رفض الحركة، والحركة جوهر التنمية والتطوير، واستمر الأمر على هذا الحال، ولم يلتفت أحد إلى ظهور المدارس الاشتراكية التي ظهرت، وازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر، كذلك لم يهتم علماء الاقتصاد بالتجربة السوفيتية اعتقاداً منهم أنها سوف تنتهي إلى إفلاس مؤكد، وما صاحبها من تدهور وبطالة وهزات اجتماعية وسياسية.