الخلافة العباسية في عصر النفوذ التركي

اقرأ في هذا المقال


فترة الفوضى العسكرية (247 – 256 هجري):

يعتبر موت الخليفة المتوكل (247 هجري)، بسبب الجند الأتراك في سامراء أساس ضعف الخلافة العباسية من الحالة السياسية، وأشارة لانتهاء فترة الخلفاء العباسيين الأوائل الشجعان. فقد اصطلح معظم المؤرخين على تسمية الفترة التي أعقبت مقتل الخليفة المتوكل بفترة التسع سنوات، أو فترة الفوضى العسكرية (247 – 256 هجري)، التي تولى فيها أربعة من الخلفاء وهم المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي.

والأصل أنَّ ما أثمرة الخلفاء الأربعة فترة التسع سنوات لم يكن من أفعال الخلفاء أنفسهم، وإنما يعود في جذوره إلى أيام الخليفة المعتصم وسياسته بالاعتماد الكلي على الجند الأتراك، وإسقاط المُقاتلين العرب وغيرهم من العناصر الأخرى من الديوان وإبعادهم عن الجندية، مما أدّى إلى الإخلال بالتوازن الضروري لوجود الدولة العباسية، وكان عاملاً مُهماً في سيادة الروح العسكرية، وتحكم الجند فيها تحكماً كيفياً، وتلاعبهم بمقدرات البلاد السياسية، وقد أدى كله إلى ضعف الخلافة العباسية، وجاء الخليفة الواثق (227 – 232 هجري)، إلى الخلافة فسار سيرة أبيه المعتصم في تفضيل الأتراك، وزاد عليه أنه استخلف على السلطنة أشناس التركي، وألبسه وشاحين وتاجاً مجوهراً.

ولمّا توفي الخليفة الواثق ولم يعهد لحد بالخلافة من بعده، كان من السهل على الأتراك أنّ يُسيطروا على الموقف، فاجتمعوا وقرَّ رأيهم على تنصيب المتوكل (232 – 247 هجري)، ظانين أنَّ الخليفة الجديد سيلبي مطالبهم. ولكن المتوكل خيب آمالهم، فأخذ يستعين بعناصر غير تركية، وأخذ يدخل فرقاً عسكرية من القبائل العربية، ليحفظ التوازن في الجيش، ويُعيد الدولة إلى سيرتها الأولى، ثم أخذ يحيل النظر في استئصال الأتراك. ولكن الأتراك عمدوا إلى قتله حفظاً على مصالحهم، وجاعوا بابنه المنتصر (247 – 248 هجري)، وبذلك بدأ تحكم المباشر في الدولة.

ولم يكن أمام الخليفة الجديد في هذه الفترة إلا إرضاء الأتراك والتزلف إليهم وتنفيذ مطالبهم، ومع هذا كله فإن الخليفة المنتصر كان يشعر بوطأتهم وطغيانهم واستبدادهم بالأمور، فأخذ يُفكر في وضع حد لتدخلهم في شؤون الدولة بقتل رؤساءهم والتحرر من سيطرتهم، وكان شغله الشاغل، ولسان حاله يقول: (هؤلاء قتلة الخلفاء، قتلني الله إن لم أقتلهم وأفرق جمعهم). فلمّا أحس الأتراك بما هو عازم عليه، ووجدوا منه الفرصة، دسوا له السم فمات سنة (248 هجري)، بعد حكم لم يتجاوز ستة شهور، وجاءوا بأحد أبناء المعتصم المغمورين، وهو أحمد بن محمد ولقبوه بالمستعين (248 – 252 هجري).

وكان هذا الخليفة كما وصفه المؤرخون (لين الجانب منقاداً لأتباع مهملات الأمور، شديد الخوف على نفسه)، وكان مسلوب السلطة، والغالب على أمره القائدان التركيان وصيف ويغا. والمهم في الأمر أنَّ الجند الأتراك تمكنوا في هذه المرحلة من القبض على زمام الحكم بيد من حديد، ولكن سرعان ما دبَّ الخلاف بين زعمائهم، وانقسموا إلى حزبين متنافرين، أحدهما يؤيد باغر التركي، والآخر يؤيد وحد وبغا، أما الخليفة فكان حائراً بين الاثنين لا يدري ما يفعل.

فترة الفوضى العسكرية في عهد الخليفة المهتدي بالله:

أخيراً اتفق وصيف وبغا مع الخليفة فقتلوا باغراً، وقد استفز هذا العمل غضب الجند الأتراك وأخاف المستعين، فأنحدر إلى بغداد لعله يجد نصيراً، من البغداديين الذي عرف عنهم بنصرتهم للخلفاء العباسيين، أم من صاحب شرطتها محمد بن عبد الله بن طاهر، فما كان من الجند الأتراك في سامراء إلا أن بايعوا المعتز بالخلافة، هذا (والمستعين كان لا يزال خليفة مجتمع عليه في الشرق والغرب)، فأرسل خليفة سامراء أخاه أحمد بن المتوكل (الموفق)، إلى بغداد لحرب المستعين، فتوجه إلى بغداد وحاصرها، وقد أعادت هذه الحرب إلى الأذهان فتنة الأمين والمأمون، فقد وقفت سامراء إلى جانب المعتز بن المتوكل، ووقفت بغداد إلى جانب المستعين بن المعتصم.

ولمّا بلغ أهل بغداد تحرك جيش المعتز استعدوا للدفاع عن مدينتهم وخليفتهم، والتحم الجيشان وانتصر أهل بغداد على جيش سامراء في عدة مواقع ودام القتال أشهر، فتم ذلك بعد أن جرت السفراء بينهم وبين الموفق سنة (252 هجري)، وأجاب المستعين إلى خلع نفسه (لمّا رأى ضعف أمره وخذلان ناصريه)، ثم قُتِلَ بعدها في شوال (252 هجري)،‏ فكانت خلافته ثلاث سنوات وثمانية أشهر وعشرين يوماً.

لم يكن للمعتز مفر في محاباة الجند الأتراك الذين أجلسوه على العرش للخلافة، ولكنه كان في الوقت نفسه يُحاول تدبير الحيل للتخلص منهم، لأنهم تأصلوا في الدولة وكثروا في العاصمة والولايات وكثرت أرزاقهم حتى بلغت خراج المملكة لسنتين، وكان إذا تأخر عطاؤهم يثيرون المشاغبات ويقضّون مضاجع الدولة.

وحاول المعتز الاستعانة بطاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان، وطلب منه النجدة والنصرة على الجند الأتراك، فأجاب طاهر الخليفة إلى طلبه، وأرسل عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر، فدخل سامراء في خلق كثير من الجند، ولكن رؤساء الأتراك أفلحوا في حمل الخليفة على إيعاد الأمير الطاهري إلى بغداد، ولما تم لهم ذلك عادوا إلى دسائسهم وشغبهم، وكانت أم المعتز (قبيحة) تحرض ابنها على الإيقاع بالأتراك (وتلومه على ميله لهم دون طلب الثأر لوالده المتوكل، وكان المعتز يعدها ويمنها وهو يعلم أنه لا يقوى عليهم مع كثرة عددهم وشدة شوكتهم وغلبتهم على أمور الخلافة).

وأخيراً اتفق الجند الأتراك فيما بينهم (بعد أن أوجسوا من المعتز خيفة)، على خلعه، فساروا إليه بأجمعهم في رجب (255 هجري)، ودخلوا عليه وأخرجوه بطريقة مهينة ومزرية وقتلوه. ثم أرسل الأتراك بمُبايعة المهتدي بالله، وهو أبو عبد الله محمد بن الواثق وكان في بغداد، وقد نفاه إليها المعتز ولم يقبل المهتدي أن يتولى الخلافة إلا بعد أن يتنازل عنها المعتز، فأقرَّ المعتز بخلع نفسه.

لكن الأمر لن يبقى لصالح المهتدي، إذ أحس القادة الأتراك بأنه خليفة قوي جداً، فقال لهم بابكيال: (إنكم قمتم بالقضاء على ابن المتوكل، وهو وجهه حسن وذو كف سخي، فاضل النفس، وتريدون قتل هذا، وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان لأشيع أمركم هناك).

وعندما علم المهتدي بما عزم عليه القادة الأتراك من خلعه (تحول من مجلسه متقلداً سيفاً، وقد لبس ثياباً نظافاً، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم عليه، فدخلوا فقال لهم، بلغني ما أنتم عليه، ولست كمن تقدمني، مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي وهذا سيفي، والله لأخربن به ما استمسك قائماً بيدي، والله لئن سقط مني شعرة ليهلكهن وليذهبن أكثركم هذا الخلاف على الخلفاء ولأقدام والجرأة على الله).

وقد استندوا وراء الخليفة المهتدي العامة ورجال الدين، وقد أرسلوا إليه رسالة ذكروا فيها: (أنهم سامعون مطيعون، وأنهم بلغهم أن موسى وبابكيال وجماعة معهما يريدونه على الخلع وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك)، وشكوا إليه سوء أوضاعهم وتأخر أرزاقهم، فأرسل إليهم المهتدي كتاباً جاء فيه (قد فهمت كتابكم وسرني ما ذكرتم من طاعتكم، فأحسن الله جزاءكم).

كما اتبع الخليفة براعة وضرباً ودهاء في محاربة الترك، فحاول تقسيم صنوف الجيش وضرب بعضهم بعض، وابتنى قبة للمظالم لها أربعة أبواب، كان يجلس فيها للعام والخاص، كما وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب، وأخرج المغنين والمغنيات من سامراء ونفاهم إلى بغداد، وأبطل الملاهي، وقرب العلماء ورفع مكانتهم، كما أمر بترك اللعب بالديكة وقتل السباع والمحبوسة.

وفي النهاية استخدم الخليفة المهتدي فكرة تنازع القادة الترك بعضهم بالآخر. لكن الأتراك فطنوا إلى هذا التدبير عليهم، فبعث المهتدي كتاباً إلى القائد التركي بابكيال يأمره فيه بقتل موسى بن بغا، ففطن لأمر، وجاء إلى موسى، فقرأ عليه كتاب الخليفة المهتدي، وقال له: (لست أفرح بهذا فإنه تدبير علينا جميعاً، ما ترى، فقال موسى: (أرى أنَّ تسير إلى سامراء، وتخبره أنك في طاعته ونصرته علي وعلى مفلح، فهو يطمئن إليك، ثم تدبر في قتله.

فرجع القادة الأتراك إلى سامراء ومنهم بابكيال وموسى وعندما وصلوا سامراء حسَّ المهتدي بأنهم يتآمرون عليه، فجمع حوله المغاربة والأتراك وقبض على بابكيال وأمر بقتله، فكانت هذه الشرارة التي أنهت حياة الخليفة المهتدي، إذ هاج الأتراك لمقتل بابكيال، ولم يستطع الخليفة المهتدي بجميع قواته ومؤيديه، على الرغم من استنجاده بالعامة، وخرج يقاتل الأتراك، ويقول: (أنا أمير المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم، لكن جهود العامة لم تكن منظمة، فأدت إلى انتصار القادة الترك وقتل الخليفة المهتدي بالله.


شارك المقالة: