خلافة أبو جعفر المنصور:
دخل أبو جعفر إلى الأنبار فوجد العراق أمر مُنتهياً من حيث المبايعة وقد قدمها له ابن أخيه عيسى بن موسى، وأرسل الرسل لأخذها، وتسلم له الأمر، فلما وصل إلى مقره سلّمه المقاليد. وبدأت المشكلات للمنصور تتوالى فأخذها بالحكمة والحزم.
كان عيسى بن موسى قد بعث إلى عبد الله بن علي بخبر وفاة أبي العباس، وطلب منه المبايعة لأبي جعفر، وكان عبد الله بن علي في طريقه إلى الروم، فلما جاءهُ الخبر، نادى الصلاة جامعة فاجتمع إليه القادة والجند فقرأ عليهم كتاب أبي العباس، وقال لهم: إن أبا العباس لمّا أراد أن يرسل إلى حرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قال: من يسير إليه وهو ولي عهدي. فتقدمت ولم يرسل غيري، فكنت ولي عهده، وأنا من بعده، والآن قد رحل فأنا الخليفة من بعده، وشهد بعض القادة على ذلك.
فبايعه من معه وذهب بها إلى حرّان، وقام بدعوة مقاتل بن حكيم العكيّ إلى البيعة فلم يرد فحاصره مدة دخل بعدها حرّان وقتله، ثم تحصّن بها، وأخذ استعداداته. يرى عبد الله بن علي أنه الخليفة الطبيعي فهو الذي قد دك صرح الدولة الأموية، وثبّت دعائم البيت العباسي، وإذا كان أبو العباس قد تولى الخلافة بالعهد من أخيه إبراهيم إلا أنه هو الآن أحقُّ الناس بالأمر.
وإذا كان إخوته جميعهم أكبر منه باستثناء عبد الصمد، إلا أنهم دونه في المؤهلات كما لم يقوموا بالدور الذي قام به، كما أن أخاه عبد الصمد هو بجانبه ويرى رأيه. وإذا كان ابن أخيه أبو جعفر أكبر منه سنا إلا أنه لم يقم بأي دور يؤهله باستلام الأمر (حسب رأيه). أما أبو جعفر فرأى أن يضرب عمه بأبي مسلم وأيهما زال فقد زال من طريقه. وأبو مسلم يرهبه الجند. ويخافونه فقد ذاع صيته، وعرفت مقدرته، ثم يطيعه الخراسانيون، ويستمع له القادة وإن من لم يسمع له ينتهي بطريقة أو بأخرى.
استخلاف أبو مسلم على خرسان:
استخلف أبو مسلم لخالد بن إبراهيم على منطقة خراسان، وذهب إلى الأنبار حيث أخذ التعليمات من الخليفة، ومنها سار نحو حرّان، ومعه من القادة، الحسن بن قُحطبة، وحمد بن قُحطبة وكان قد فارق عبد الله بن علي وفرَّ منه بعد أن أراد عبد الله قتله ومالك بن الهيثم الخزاعي، وخازم بن خزيمة. وكان الحسن بن قُحطبة خليفة أبي جعفر على أرمينيا وطلب منه أن يلّحق أبا مسلم فوافاه في الموصل.
كان عبد الله بن علي يستند على قوته وجرأته، وشجاعة أخاه عبد الصمد، وقوة أهل الشام. ويعتمد أبو مسلم على طاعة جنده وتفانيهم، ودهائه، وخططه التي يستعملها في القتال. ولكنه كان يخشى الخليفة فهو ابن أخي عبد الله بن علي، فإن تمكن من عبد الله بن علي أخذ الخليفة ثأره منه، وإن هُزم قتل فالموت في كلا الحالين.
ويبدو أن عبد الله بن علي تمّلكه الخوف فطاشت حكمته إذ خاف ممن معه من أهل خراسان في الجيش فقام بقتل عدداً منهم الأمر الذي أفقده ثقة جنده، ووصل الخبر إلى أبي مسلم فاتخذ حكمته، إذ دبّت الحماسة في جنده من أهل خراسان، واقتنعوا بأنهم إن استسلموا كان القتل مصيرهم، وفي الوقت نفسه أعلن لعبد الله بن علي وأخبر جنده أنه لم يأت لقتال عبد الله بن علي وإنما جاء والياً على الشام.
الأحداث التي جرت مع أبي مسلم:
هذا ما جعل جنود الشام يخافون من أبي مسلم على أهلهم ما داموا جُنداً مع عبد الله بن علي لذا رأوا السير إلى الشام، وأجبروا عبد الله بن علي على ذلك. فلما سار حل أبو مسلم مكانه، وكان قريباً منه، فلما عاد وجد أبا مسلم قد سبقه إلى مُعسكره، فنزل موضعه، واشتبك الطرفان في معارك زادت على خمسة أشهر، وكان التفوق لأهل الشام إلا أن تدبير المعركة قد جعلت الهزيمة تحلُّ بعبد الله بن علي في جمادى الآخرة وفرَّ إلى العراق.
وذهب إلى البصرة فقام بتأمينه أخاهُ سليمان بن علي، أما عبد الصمد بن علي قد دخل الكوفة وأمنه ابن أخاه عيسى بن موسى بن محمد. وبعث أبو جعفر والي أبا الخصيب يحصي ما أصابه أبو مسلم من معسكر عبد الله بن علي فغضب أبو مسلم كثيراً فأمّّن الناس ولم يقتل أحداً. ولما وصل إليه أبو الخصيب أراد أن يقتله فتكلم فيه إذ قيل إنه رسول فخلى سبيله وقال: أنا أمين على الدماء خائن في الأموال، وشتم المنصور، فرجع أبو الخصيب إلى المنصور فأخبره.