قيام الدويلات في المشرق الإسلامي للعصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


قيام الدولة المُترابطة:

قامت في المشرق الإسلامي الدولة الصفارية (254 – 290 هجري)، إذ برز يعقوب بن الليث الصفاري بحربه ضد الخوارج، وزهده الذي عرف به، وإذا كانت هذه الدولة قد قضت على الإمارة الطاهرية عام (259 هجري)، إلا أن الدولة الطاهرية تُعد إمارةً عباسيةً لأنها بقيت مُدّة بقائها تعترف بالخليفة العباسي وتدين بالولاء له على حين أن الدولة الصفارية قد قطعت الخطبة للخليفة وحاربته وقصدت بغداد، ولكن جيشها قد هزم عندما رأى الخليفة أن يخرج بنفسه لقتالها.

وقامت الدولة السامانية الفارسية (261 – 389 هجري)، ومقرها سمرقند، وقامت الدولة الغزنوية التركية في غزنة (351 – 582 هجري)، هذا إضافة إلى دولٍ أُخرى أكثر صُغراً وأقل أهمية كالدولة الطاهرية التي تحدثنا عنها عرضاً وهي في خراسان، والدولة العلوية في طبرستان.

قيام الدول المُستقلة:

كذلك زادت الدول المستقلة فى مغرب الدولة وخاصةً في مصر، أو أن الدول المُستقلة بدأت تتقدم نحو الشرق حيثُ قام المماليك يؤسسون لهم إمارات في الدولة الطولونية (256 – 292 هجري)، التي أسسها مملوك تركي هو أحمد بن طولون، والدولة الإخشيدية (323 – 358 هجري)، التي أسسها محمد بن طغج الإخشيدي، وهو أيضاً من أصل مملوكي من فرغانة إذ كان يُلقب ملوك فرغانة بالإخشيد.

ولا نستغرب تأسيس دولٍ لهم في مصر إذ أن سكان هذه المنطقة من طبيعتهم أن يقرّوا لأي إنسانٍ بالطاعة إذا تسلم الزعامة عليهم أو أظهر قوةً أمامهم، ويدينون بالولاء له، ولم تقم حكومات للمماليك في أي جُزءٍ آخر من المنطقة العربية في الدولة الإسلامية، وصحيح أن دولة المماليك توسّعت حتى شملت أجزاءً كبيرةً من بلاد الشام والحجاز، ولكن كانت هذه المناطق ضمن توسّعها ولم تكن مقراً لها، كما لم يكن أهلها جندها الذين تُقاتل بهم، وتضرب خصومها بأيديهم.

وظهرت دول أيضاً وسط الدولة الإسلامية إذ قامت دولة بني حمدان في الموصل (317 – 369 هجري)، وفي حلب (333 – 392 هجري)، وبنو حمدان من قبيلة بني تغلب العربية. كما قام الأيوبيون في الشام (567 – 648 هجري)، والأيوبيون جزء من سكان هذه المناطق فهم من الأكراد الذين يُقيمون في جهات (إربيل)، شمالي العراق، وقد تولّوا مسؤولية الدفاع عن بلاد المسلمين.

وقد كانوا أشداء بصفتهم سكان جبال، لم تفسد المدنية طباعهم بعد، بل إن صلاح الدين الأيوبي ‏رحمه الله قد نقل أعداداً من سكان الجبال من هؤلاء الأكراد ووضعهم في المناطق المُتاخمة للأجزاء التي سيطر عليها الصليبيون كخطٍ للمواجهة، أو لقتال الصليبيين وحماية الأجزاء الأخرى من خطر هؤلاء الدُخلاء أو كي لا يتمكن الصليبيون من التوغل إلى الداخل.

وقد أسكن الأكراد في القلاع القائمة أو شيّد لهم قِلاعاً خاصة بهم، ولا تزال بقاياهم قائمةً إلى الآن في مُدن هذه المناطق أو التي كانت خط دفاع، وفي قلاع تلك الجهات، والبقاع ذات الأهمية، وقد امتزجوا بالسكان، واستعربوا، ونسوا لغة الأكراد ونجد منهم في شمال اللاذقية، وحماه، ودمشق، ودرعا، وصفد، والكرك ويُعرفون بذلك حتى الآن.

وقام القرامطة وهو تعريف لكل أولئك الذين حقدوا على الأغنياء المرفهين خاصةً وعلى المجتمع عامةً لوضعهم الاجتماعي الذي عاشوا فيه، فدعوا سرّاً إلى شيوعية المال والنساء، واستغلوا حقد زرّاع الأجزاء الجنوبية من العراق حيث كثر الزنج هناك، كما استغلوا جهل البداة، ومراهقة الشباب ومتطلبات الطرفين، وأسسوا على كواهل هذه المجموعات دولتهم
التي شملت أغلب أجزاء جزيرة العرب.

ووصلت إلى أطراف الشام وحدود مصر، ولا أستطيع أن أؤكد أصول زعماء هؤلاء، وإنما جمعتهم كلمة قرامطة، وهم أخلاط من أجناس شتّى. وهكذا لم تنج رُقعة من رقع الدولة الإسلامية من استقلال إمارة فيها حتى أن مركز الخلافة قد خضع للسيطرة عليه أو لمجموعةٍ حكمت تحت اسم الخليفة وحمل سيّدها لقب أمير الأمراء، أو سلطان، أو ملك.

قيام الدول المنفصلة:

ولا شك فإن قيام الدول المنفصلة عن جسم الخلافة كان على أطرافها أكثر منه في وسطها فنجد في المغرب دولة المُرابطين (448 – 541 هجري)، ‏ودولة الموحدين (524 – 667 هجري)، وفي اليمن دولة بني زياد (204 – 407 هجري)، في زبيد، ودولة بني نجاح في زبيد أيضاً (412 – 554 هجري)، ودولة الصليحيين في صنعاء (429 – 534 هجري)، وهم من الإسماعيلية.

ودولة بني مهدي في زبيد (554 – 569 هجري)، ودولة بني زريع في عدن (476 – 569 هجري)، ودولة بني رسّ (280 – 700 هجري)، وهم الأئمة الزيديون بصعدة وصنعاء، كما قامت دولة بني رسول عام (626 هجري)، واستمرت إلى ما بعد المرحلة التي نحن بصدد دراستها، وفي الهند دولة الغوريين (543 – 612 هجري).

وفي بلاد ما وراء النهر الدولة الخوارزمية، هذه الدول كان لبعضها شأن لذا فقد درست منفصلةً عن الخلافة الإسلامية لذا فقد حدث تشتُّت في تاريخ هذه المرحلة هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ أهمل تاريخ مركز الخلافة، وعرف تاريخ هذه الدول المتناثرة فظهر الضعف بصورة أكبر، وكان تاريخ دويلات.

قيام الدولة العبيدية وأهم مُجرياتِها:

وإن أول مرةٍ فُتقت فيه عرا الإسلام فوجد خليفتان في آنٍ واحد عام (297 هجري)، عندما قامت الدولة العبيدية في المغرب، وادعت النسب الفاطمي كناحية دينية، وهي بذلك ككثير من دول القرامطة لا تجد أساساً تستند عليه لتقف على أرجلها إلا ذلك الادعاء، وآل البيت من هذا بُرءاء، وفي الوقت نفسه فإن النسب لا يُغني شيئاً فلو كان رجلٌ صحيح النسب وغير ملتزم
بمنهج الله الذي سار عليه رسول الله وأصحابه فلا وزن له في الدنيا ولا في الآخرة.

ولم تجد هذه الدولة العبيدية قاعدةً صلبةً لها في بلاد المغرب فاتجهت نحو مصر لا للتوسع فقط وإنما لتأخذ مصر حيث تجد هناك الخضوع التام من أهلها ‏ كما عهدنا ذلك، وتمَّ لها ما أرادت، وحصل ما توقّعته من وداعة السكان وحبهم للسلم أو للاستسلام، هذا رغم ما كان يلقى العبيديون من مُناهضة كلامية على شكل شعرٍ أو قصص ساخرة فيها تبكيت وتجريح بنسبهم، وقد يصل ذلك إلى مسامع الخليفة دون معرفة مصدره.

وأصبح في الدولة الإسلامية خلافتان إحداهما في بغداد والأخرى في المهدية وذلك مُدّة تصل تسع عشرة سنة (297 – 316 هجري)، ثم انتقلت من المهدية إلى القاهرة، ثم غدا ثلاثة خلفاء إذ أُضيفت خلافة في قرطبة عام (316 هجري)، وبقي ذلك مُدّة سبع وثمانين سنة (316 – 403 هجري)، إذ انتهت خلافة قرطبة، وجاء دور ملوك الطوائف، وبقي خليفتان مُدّة (164)، سنة (403 – 567 هجري)، وعاد الأمر بعد ذلك إلى بقاء خليفة واحدٍ في بغداد حتى سقوط الدولة عام (656 هجري)، وينتهي معها العصر العباسي الثاني.

نهاية قيام الدول المتعددة:

ومع هذه الدول المُتعددة إلا أنه لم يحدث من إحداها مُساعدة كافر ضد أخراها، بل يمكن أن نقول: إنه كان يوجد تعاون حسب الإمكانات الضعيفة ونذكر على سبيل المثال مُراسلة صلاح الدين الأيوبي في المشرق إلى يعقوب بن يوسف الموحدي في المغرب، وهديته له، وطلبه دعمه لمحاربة الصليبيين، وقد فعل ذلك وجهز المنصور يعقوب بن يوسف (180) سفينة،

وحال دون لحاق الصليبيين لقتال صلاح الدين، وأثبت ابن خلدون بذلك على انتصار وقوة قادة المغرب على قادة المشرق في بناء الأساطيل الجهادية، كما يجب ألا ننسى أن الخلافة العباسية والعبيدية قد عملت كلاهما لقتال الصليبيين رغم ما بينهما من عداء. وأخيراً يُمكن أن نقول: إن وجود هذه الدويلات إنما يعود إلى الضعف الذي أصاب الدولة العباسية، وإن وجود الدويلات قد زاد في الضعف، أو هو سبب من أسبابه.

ومردّ كل ذلك إلى ضعف الإيمان في النفوس، وتراجع الفكر الإسلامي من العقول، وعدم فهم طبيعة الإسلام في الجهاد، وإنصاف الأجراء فإن عدم إنصافهم قد دفعهم إلى السير وراء أصحاب المُنكرات والأطماع مجرد ادعائهم الانتساب إلى آل البيت مع وضوح ضلالهم وضلالاتهم.

كما دفعهم إلى القيام بحركات ضد الدولة استغلّها أهل السوء، وقد نُعيد ذلك إلى الجهل الذي يؤدي إلى ذلك، ولكن الجهل ليس هو إلا من ظاهرات ضعف الإيمان، وكل ذلك أدَى إلى وجود أكثر من خليفةٍ في بلاد المسلمين وتعدد الدول المنفصلة عن جسم الخلافة.


شارك المقالة: