نكبة البرامكة في عهد الرشيد

اقرأ في هذا المقال


نكبة البرامكة في عهد الرشيد:

بقيت نظرة الثأر لمقتل أبي مسلم وتحقيق تطلعاته السياسية، كامنة في نفوس أتباعه الخراسانيين. وأخذت هذه الفكرة منهجاً جديداً مع مرور الزمن، يقضي بالسيطرة على دولة الخلافة العباسية من الداخل، بعد فشل محاولات النيل منها من الخارج. وقد قام عدد من الوزراء العباسيين من أُسر فارسية بتحقيق ذلك، كان من أشهرها أسرة البرامكة وأسرة آل سهل والأسرة الطاهرية.

يُنسب أصل عائلة البرامكة الفارسية العريقة إلى جدها برمك، وهو لقب أطلق على سادن معبد النوبهار في مدينة بلخ. وبرز من هذه الأسرة في أوائل عهد دولة الخلافة العباسية، خالد بن برمك من خلال مقدرته الإدارية والمالية ورجاحة عقله، وبُعد نظره، فلفت إليه أنظار المسؤولين العباسيين.

فقلّده السفاح ديوان الخراج وديوان الجندا، كما تولى وزارة التنفيذ بعد مصرع أبي سلمة الخلاّل، وعمل مستشاراً للمنصور ومُشرفاً على الشؤون المالية ولمع اسمه في بناء مدينة بغداد وهو بحكم منصبه، اشترك في صنع القرارات السياسية وظلت له مكانته في عهد المهدي الذي ولاّه مقاطعة فارس في عام (163 هجري)/(780 ميلادي).

أنجب خالد رجُلاً يُعتبر واسطة عقد الأسرة البرمكية هو يحيى وقد ارتبط تاريخه بتاريخ هارون الرشيد. تولى الكتابة له والنيابة عنه ووزارته. وقد أدّى دوراً بارزاً في تأمين ولاية العهد له في مواجهة الضغوط الكبيرة التي مارسها المهدي بهدف تنحيته وتولية ابنه جعفر بدلاً منه.

والراجح أن يحيى ورث عن أبيه تطلُعاته السياسية التي كانت ستتلاشى إذا أُبعد هارون عن ولاية العهد. ولما بُويع الرشيد بالخلافة حفظ ليحيى فضله فقلّده وزارة التفويض، ومنحه سلطات مطلقة، فكانت الدواوين كلها بيدة، واجتمعت له الوزارتان، كما خصَّه بامتيازات جديدة فهو أوْل من أمَّر الوزراء، وكانت الكتب التي تُنفذ من ديوان الخراج تؤرخ باسمه. ولم تكن تُنفذ إلا عن الخليفة.

وأنجز يحيى بمساعدة ابنيّه جعفر والفضل، قيادة دولة الخلافة العباسية فترة تصل سبعة عشر عاماً (170-187 هجري)/(786-803 ميلادي)، مُنجزاً بذلك قواعد المشاركة الكاملة في الحكم. وتُعتبر هذه الفترة بحق فترة تألق البرامكة وعصرهم الذهبي. أما الفضل فهو أخو الخليفة بالرضاعة، عهد إليه الرشيد بالإشراف على تربية ابنه الأمين، وولآه عدة مناصب إدارية وقيادية، خاصة في المشرق حيث حقّق نهضة اقتصادية وعمرانية ووطَّد الأمن.

وأما جعفر، فقد اهتم بمنادمة الرشيد وخدمته وتلبية حاجاته لقدرته على طباعه، فبقي بجانبه في ليله ونهاره. فقد كان أكثر أهل البرامكة اتصالاً به، وكان يُلقبه (أخاه) ويدخل معه من شدة الأخاء في ثوب واحد.
ونتيجة لهذه الألفة وصل تأثير جعفر على الرشيد حداً بعيداً حتى غلب على خصوصياته، فأشركه معه في المظالم وقلّده مراقبة دور الضرب والطراز والبريد، كما أمر بكتابة اسمه على الدراهم والدنانير بمدينة السلام وبالمُحمدية وأسند إليه ولاية المغرب من الأنبار إلى إفريقية، بالإضافة إلى خراسان وسجستان وطبرستان وأرمينيا وأذربيجان، وطبيعي أنه من موقعه هذا كان يوحي للرشيد بانتهاج سياسات معينة.

وبرز في صفوف البرامكة، محمد بن خالد بن برمك الذي تولى حجابة الرشيد وموسى بن يحيى بن خالد الذي ولي الشام. ويبدو أن هذا التوزيع في المناصب الكُبرى في الدولة لم يكن عفوياً. والراجح أن البرامكة هدفوا إحاطة الرشيد كي يتحكموا به أو يتحرك من خلالهم، كما نلاحظ أن معظم الرجال البارزين في الدولة، كانوا من صنائعهم وأتباعهم، لدرجة أن الرشيد وجد صعوبة كُبرى في العثور على رجال ممن لم تكن لهم صلة بهم ليتولوا بعض شؤون الدولة.

مميزات الوجود السياسي للبرامكة:

تميز الوجود السياسي للبرامكة بثلاث مميزات وهي:

  1. لقد عَمّرت هذه الأسرة طويلاً بالمقارنة مع الوجود السياسي لمن سبقهم أو عاصرهم، مثل أبو مسلم الخراساني.
  2. التطور السياسي لهذه الأسرة الذي يبدو أنه مدروس ومخطط له. فهو يبدأ بدور عادي في الحركة العباسية ويتطور إلى تولي بعض المناصب في الدولة، ثم تتغلغل الأسرة في صميم البيت العباسي بمعنى أن هذا التطور بدأ تصاعدياً من مجرد أداة منفذة إلى التدخل في رسم سياسة الدولة.
  3. الاستمرارية في العلاقات الجيدة مع الخلفاء، باستثناء فترات قصيرة تعرضت فيها الأسرة لبعض المضايقات.

بلغ أوج هذه الأسرة في حياة الخيزران، والدة الرشيد، فلما توفيت في عام (173‏ هجري)/ (789 ميلادي) بدأت ثقة الخليفة بأفرادها تهتز حتى نكَّل بهم. اختلف المؤرخون في تحديد أسباب نكبة البرامكة، ويبدو أن هذا الاختلاف ناتج عن تحديد الدور الذي أدّاه هؤلاء؛ حيث تعصب الرواة لهم أو عليهم، بالإضافة إلى تكتم الرشيد حول هذه الأسباب.

وظاهر أن هذه الأسباب يعود إلى سببين رئيسيين مالي وسياسي. أما حيث السبب السياسي، فقد ظهر للرشيد بعد استمرار فترة من سنين على وجودهم، أن البرامكة أصبحوا يُكونون مشكلتاً فعليتاً على دولته؛ وقد كوّن هذا الانطباع بفعل عدة عوامل لعل أبرزها ميلهم إلى الطالبيين وميولهم العنصرية. لقد أظهر البرامكة ميولاً سياسية نحو الطالبيين ويرتبط تاريخهم بتعاطفهم مع يحيى بن عبد الله وأحمد بن عيسى بن زيد ويتعارض ذلك مع العلاقات العدائية بين العباسيين والطالبيين.

أما فيما يتركز نحو ميولهم العنصرية الفارسية، فظهر أن الأمر غير واضح تماماً بفعل قلة المادة التاريخية، لكن شدة حساسية الرشيد تجاه تصرفات البرامكة واستئثارهم بالأمر دونه، قد ضخمت عنده هذا الأمر. فكان الجو العام أقرب إلى الاتهام حتى في دقائق الأمور، لكن لا يخفى أن العناصر الفارسية في المجتمع العباسي، كانت مُتهمة دائماً فى ولائها.

ومن حيث السبب المالي، فقد انتزع البرامكة مالية الدولة وقاموا بالسيطرة على الأمور كلها حتى أنهم قالوا أن الرشيد، (يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه)، في الوقت الذي كان البرامكة يسرفون فى النفقات وقد قيدوا الخليفة فى هذا التصرف المالي كما كبلّوه في تصرفه السياسي. يُضاف إلى ذلك، أن الوشاية قد أدّت دوراً آخر في التأثير على الرشيد للإيقاع بهم، إذ حاول خصومهم انتهاز كل فرصة لإيغار صدره عليهم وإثارة شكوكه في تصرفاتهه.

ومهما يكن من أمر، فقد قتل الرشيد جعفراً في الليلة الأولى من شهر صفر في عام (187 هجري)/(‎803‏ ميلادي) وسجن يحيى وبقية أبنائه، وصادر ممتلكاتهم وأموالهم وتوفي يحيى في عام (190 هجري)/(805‏ ميلادي) والفضل في عام (193 هجري)/(‏808 ميلادي).

وقد كانت نهاية البرامكة بهذه الطريقة. وهي شكل من أشكال التضاد بين سلطة الوزراء وبين سلطة الخلفاء، كما أنها تعتبر ظاهرة مهمه على وضوح بين مصلحة هؤلاء وميول أولئك وتعتبر العلاقة بينهم وبين الرشيد أحد فصول العلاقات بين العباسيين والعناصر الفارسية التي حكمتها تطلعاتها السياسية.


شارك المقالة: