من الصعب أن تُحدَ وجوه وجوانب الإعجاز في القرآن الكريم، فكل شيء منه لا مثيل له، فهو يُبهرك في أسلوبه وألفاظه، في تأليفه ونظمه، في بيانه وبلاغته، في تشريعه وحِكمه التي حيرت الألباب، في أنبائه وأخباره، في تاريخه وحفظه، في علومه التي لا تنقطع ولا تقف عند غاية.
وقد أجمل وأحسن وصفه من قال: فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن: 1-2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)).
أنواع الإعجاز القرآني:
النوع الأول – الإعجاز اللغوي:
هذا النوع هو أقوى ما تحدى به العرب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التحدي في أكثر ميزاتهم، فمع أنه جاء بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن وجوه فصاحتهم وأساليب بيانهم، وهم يومئذ في الذروة في ذلك نثراً ونظماً، لكنهم عجزوا عن معارضته ولو بسورة، فصاروا يتخبطون.
فمرة يقولون: ( هو شعر) ومرة هو (قول كاهن)، ومرة يقولون: ﴿وَقَالُوۤا۟ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِیَ تُمۡلَىٰ عَلَیۡهِ بُكۡرَةࣰ وَأَصِیلࣰا﴾، فلا يثبتون على شيء من كلامهم، لأنهم يعلمون أنه ليس كما يقولون، وما كان لهم ليغفلوا عن صفة الشعر، ولا صيغة النثر، وهم أهل ذلك وعباقرته، بل شأنهم شأن من قال الله فيهم: ﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ (١٣) وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ (١٤)﴾ [النمل ١٣-١٤]صدق الله العظيم .
وهكذا قال أولئك المشركون عن القرآن: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَهُمُ ٱلۡحَقُّ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ وَإِنَّا بِهِۦ كَـٰفِرُونَ﴾ [الزخرف ٣٠]، فقد أضعفتهم الحيل وسُدت بهم السبل، ويبقى القرآن يتحدى ولا يرجع الكفار جواباً، ﴿فَإِن لَّمۡ یَسۡتَجِیبُوا۟ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا یَتَّبِعُونَ أَهۡوَاۤءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَیۡرِ هُدࣰى مِّنَ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ صدق الله العظيم [القصص ٥٠].
النوع الثاني – الإعجاز الإخباري:
وهذا هو الإعجاز فيما تضمنه القرآن من الأنباء وهو أربعة:
أولها الإخبار المُغيبات: وقد جاء القرآن بما لا تدركه ولا تُحيط به العقول، وهذا طريقه السمع، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ صدق الله العظيم[البقرة ٣].
ثانياً: الإخبار عن الأحداث السابقة: مثل بدء الخلق، وعن الأممم السالفة، مثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ صدق الله العظيم[البقرة ٢٩]، وكذلك قوله تعالى : ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ﴾ صدق الله العظيم[يوسف ٣] وقص الله علينا قصة سيدنا موسى عليه السلام عند قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِیِّ إِذۡ قَضَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ﴾ صدق الله العظيم[القصص ٤٤].
وبعد ذكر قصة السيدة مريم قال تعالى: ﴿ذَ ٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلۡغَیۡبِ نُوحِیهِ إِلَیۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یُلۡقُونَ أَقۡلَـٰمَهُمۡ أَیُّهُمۡ یَكۡفُلُ مَرۡیَمَ وَمَا كُنتَ لَدَیۡهِمۡ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ﴾ صدق الله العظيم [آل عمران ٤٤].
ثالثاً: التكلم عن الأخبار التي ستكون في المستقبل: مثل أشراط الساعة، والبعث والنشور بعد الموت، وحساب الله للخلق، وجزاء كل شخص يوم القيامة، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ فَیَقُولُ هَاۤؤُمُ ٱقۡرَءُوا۟ كِتَـٰبِیَهۡ (١٩) إِنِّی ظَنَنتُ أَنِّی مُلَـٰقٍ حِسَابِیَهۡ (٢٠) فَهُوَ فِی عِیشَةࣲ رَّاضِیَةࣲ (٢١)﴾ صدق الله العظيم[الحاقة ١٩-٢١] .
رابعاً: التكلم عما في بواطن الناس من الغيوب والضمائر: مثال ذلك ما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَیَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا یُعۡلِنُونَ﴾ صدق الله العظيم[النمل ٧٤].
النوع الثالث – الإعجاز التشريعي:
وهي ما فيه من التشريعات والقوانين الصالحة لكل زمان ومكان، ولا يوجد لها نظير، فالتشريع مبني على مصالح العباد، والقاعدة الفقهية التي تقول: (حيثما تكون المصلحة، فثم شرع الله)، وكذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ یَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمࣰا لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ﴾ صدق الله العظيم[المائدة ٥٠].
النوع الرابع – الإعجاز العلمي:
وقد دلت عليه الكثير من الآيات، من علوم وقوانين، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارࣰا (١٣) وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا (١٤) أَلَمۡ تَرَوۡا۟ كَیۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲ طِبَاقࣰا (١٥) وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِیهِنَّ نُورࣰا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجࣰا (١٦)﴾ صدق الله العظيم[نوح ١٣-١٦] قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي : والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين، ثم تطويرها إلى علقة، ثم تطوير العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاما، ثم كسو العظام لحما. ثم نشأته نشأة أخرى.
ومثال قوله تعالى: ﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ﴾ صدق الله العظيم[الأنبياء ٣٠] وقال أهل العلم في هذه الآية: ﴿كانتا رتقا﴾ أي: كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها، وأقر الأرض في مكانها، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.
ألا تكفي هذه الآيات باحثاً عن الحقيقة ليشهد أنه الحق؟ أنرى يكون هذا من بشر من أهل مكة يأتي به من تلقاء نفسه قبل خمسة عشر قرناًمن الزمان؟ كلا، قال تعالى: ﴿وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ (٣) إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ (٤) عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ (٥) ذُو مِرَّةࣲ فَٱسۡتَوَىٰ (٦) وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ (٧)﴾ صدق الله العظيم[النجم ٣-٧].
والعلم الحديث يظهر على الناس بعجائب في خلق الله، فيُبهر الناس بها، وحُق لهم، لكن الأعجب أن يكون القرآن قد نبه على اعتبارها ودل عليها منذ دهر بعيدٍ، ولم يكن للناس يومئذٍ من وسائل النظر والاكتشاف ما لأهل زماننا، إنه استمرار شهادة الحق، إن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ صدق الله العظيم[فصلت ٥٣].