حكمة نزول القرآن منجماً

اقرأ في هذا المقال


حكمة نزول القرآن منجماً:

لنزول القرآن منجماً، أي مفرقاً حكم جليلة، وأسرار كثيرة عرفها العالمون، وغفل عنها الغافلون، ونسنذكر بعضاً منها وهي:

أولاً: تثبيت قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أمام ما يواجهه من أذى المكذبون، فقد ذكرتها الآية في موضع الرد على المشركين، عندما اقترحوا بنزول القرآن جملة واحدة، كما حدث مع الكتب السماوية السابقة، فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا﴾ صدق الله العظيم [الفرقان ٣٢].
والتثبيت هنا، هو رعاية من الله لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك تأييد أمام تكذيب الخصوم له، والدفاع عنه أمام ما يتعرض له من الإيذاء الشديد له لأتباعه، فكثير من الآيات كانت تنزل تسلية له، وشحذاً لهممه، فمرات التسلية من باب ذكر قصص الأنبياء من قبله، كما قيل له صلى الله عليه وسلم:  ﴿مَّا یُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدۡ قِیلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبۡلِكَۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةࣲ وَذُو عِقَابٍ أَلِیمࣲ﴾ صدق الله العظيم [فصلت ٤٣]، وكذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُوا۟ عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا۟ وَأُوذُوا۟ حَتَّىٰۤ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَكَ مِن نَّبَإِی۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ [الأنعام ٣٤]، وقال له: ﴿وَكُلࣰّا نَّقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَاۤءَكَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةࣱ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ صدق الله العظيمم[هود ١٢٠].

ثانياً: التلطف بحال نبينا محمد صلى عليه السلام عند نزول الوحي عليه، فالقرآن له روعة وهيبة ووقار وله ثقل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الكتاب الذي لو نزل على جبل لرأيته خاشع متصدع من خشية، قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا﴾ صدق الله العظيم [المزمل ٥]، فكيف بقلب النبي صلى الله عليه وسلم ؟!. فدعت الحاجة إلى نزول الوحي متدرج، لكي لا يتصدع قلب النبي من هيبته.

ثالثاً: التدرج في نزول وتشريه الأحكام الربانية السماوية، فقد خاطب القرآن العرب بحكمة، وفطمهم عن الشرك والعادات السيئة، وأحيا قلوبهم بنور الحكمة، وغرس في نفوسهم حب الله ورسوله، ودعاهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء، ونهاهم عن الكبائر، والعادات المتوارثة، وهكذا تعامل معهم على حسب نفوسهم.  

رابعاً: تيسير وتسهيل حفظ القرآن، والفهم الصحيح له، فالعرب كانوا أميين، فقد قال عنهم: ﴿هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾ صدق الله العظيم [الجمعة ٢] فاقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل القرآن (منجماً)؛ ليسهل عليهم حفظه، قال تعالى: ﴿وَلَقَد تَّرَكۡنَـٰهَاۤ ءَایَةࣰ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرࣲ (١٥) فَكَیۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدۡ یَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرࣲ (١٧)﴾ صدق الله العظيم [القمر ١٥-١٧].

خامساً: مسايرة الوقائع والحوادث، والتذكير والتنبيه عليها في وقتها، كان يحدث الكثير الأخطاء والحوادث، فكانت تنزل الآيات مصححة ومنبهة إلى ما ينبغي اجتنابه، مثال ذلك غزوة حنين، فقد خل الغرور في نفوسهم وقلوبهم، بسبب كثرة العدد والعدة، حتى وصلت بهم إلى القول: لن نُغلب اليوم من قلة، وكانت النتيجة انكسارهم، وانهزامهم.
قال تعالى: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِی مَوَاطِنَ كَثِیرَةࣲ وَیَوۡمَ حُنَیۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَضَاقَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّیۡتُم مُّدۡبِرِینَ﴾ صدق الله العظيم [التوبة ٢٥]، وكذلك ما نزل في قصة أخذ الفداء من الأسرى في (بدر) حيث جاء التوجيه الإلهي الرائع، فقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِیٍّ أَن یَكُونَ لَهُۥۤ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ یُثۡخِنَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ صدق الله العظيم [الأنفال ٦٧]، ولو نزل القرآن جملة واحدة لما أمكن التنبيه على الخطأ في حينها.

سادساً: الإرشاد والدلالة إلى مصدر القرآن، وأنه تنزيل من عند الله تعالى، وهنا يجب ذكر كلام دقيق وجميل للشيخ الزرقاني حيث يقول: وبيان ذلك. أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد دقيق السبك متين الأسلوب قوي الاتصال آخذ بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته وجاء آخره مساوقا لأوله وبدا أوله مواتياً لآخره، وهذا الكلام فيه توضيح لموضوع التدرج في نزول الآيات وعلاقتها للدلالة إلى مصدر القرآن.


شارك المقالة: