أسرار صلاة الجماعة ومردوداتها على الفرد:
إنّ صلاة الجماعة تضفى على القلب السكينة طمأنينيةً، وتجلب الراحة من مشاق الحياة ومتاعب العمل، حيث يتوجه الفرد بقلبه وعقله وجسده إلى الله تعالى، راجياً عفوه، وطامعاً فى رضاه، منشغلاً بذكره ومناجاته طارحاً همومه ومتاعبه، فتتغاشاه السكينة وتنزل عليه الرحمة ويشعرُ بالراحة والهدوء، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم الذى هو أفضل خلق الله قاطبة، يقول لبلال مؤذنه: “أرحنا بها يا بلال” أى أقم الصلاة لتجلب َلنا الراحة من التعبِ والهناء والشفاء.
وقد فرض الله الصلوات الخمس فى أوقاتٍ مختلفة، لا يجوز أدائها فى غير هذه الأوقات إلا لذو عذر قاهر، وقد ناسب سبحانه هذه الأوقات ونوعها حتى تتناسب وتتكيف مع حركة ونشاط الإنسان فى اليوم والليلة، فالصبح من بداية اليوم ، والظهر مع ذروة العمل، والعصر يتوسط النهار، والمغرب فى نهاية اليوم، والعشاء استعداداً للنوم.
لذلك فإن تأدية هذه الصلوات فى جماعةٍ فإنها تعينُ المسلم على مشاق الحياة والتكيف معها والتعامل مع كل أوقات اليوم والليلة، فتضفى هذه الصلوات على الفرد فى تلك الأوقات مع أدائها وسط إخوانه استقراراً نفسياً وثباتاً إنفاعلياً، تجعله مهيئاً نفسياً وجسدياً للتعامل مع الحياة ومع كل وقتٍ بما يناسبه، فلا يُصاب المسلم بالقلق أو التوتر، ولا يغشاهُ فتورُ العمل ورتابة الروتين اليومي.
إنّ المصلي المسلم يقف فى صلاة الجماعة بجوار أخيه المسلم فى صفوف مستقيمة ومتساوية خلف إمامٍ واحد هو أعلمهم، ولا يوجد فرق بين بعضهم البعض فأكتافهم متلاحمه وأقدامهم متلاصقه، ووجوههم متجهة إلى الله بالذلّ والخشوع إليه.
ومن هنا تبدو لنا حكمة الله تعالى البالغة من هذه الجماعة، عندما يشعر كل إمرؤ بأنه عند ربه كسائر إخوانه لافرق بينهم ولا فضلٍ لأحد على أحد، فالحاكم بجوار المحكوم والقائدُ بجوار المقود، والغنيّ إلى جانب الفقير والخادم مع المخدوم، فالكل سواءً في هذا الموقف أمام الله، الكل يرجو عفو ربه ويطمع في رضاه، وإن تفاوتت بينهم الحظوظ في الحياة فهي من قبيل الإبتلاء وليس التفضيل، فيشعر كل فرد بالرضا والقناعة والتوافق النفسي والاجتماعي.
ومن المعروف بأنه لا توجد ديانات تُساوي بين معتنقيها في أي شعيرةٍ من الشعائر على هذا الوضع وبهذا العدد في اليوم والليلة إلا في الإسلام، الذى لايعرف التعصب والعنصرية.
ومن المعروف أيضاً غلبة السُلوك الجماعي على السلوك الفردي، فالسُلوك أو الإتجاه العام للجماعة يجذبُ أفرادهُ للإيمان به والإمتثال إليه، فحينما يتواجدُ الفرد بصفة مستمرة في جماعة خلقها الصدق وذم الكذب، فلا بدّ من أن تكون هذه صفته، وإن كان على غيرها فمع مرور الوقت سيتأثر بها حتى تصبح صفته مثل جماعته، كذلك فإن التجمع لأداء الصلوات والإلتزام بسننها وأدابها، يجعلُ كل فردٍ يكتسب مجموعةً من القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، أما الأفراد الذين لاتُقام فيهم الصلوات، فإنهم موجودون في حوذة الشيطان عرضةً لنهبه وإفساده، لأنهم لم يتحصنوا بها عليه، كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فى قوله: “ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية” رواه أحمد .
أسرار صلاة الجماعة على مجتمع المصلين:
إن الصلاة تبدوا بحكمتها أن تحقق الغاية الإسلامية العظمة في حفظ التماسك الاجتماعي ووحدته، وإعتصام أفراده بحبل الله، ونبذِ كل ما يؤدى شقّ الصف والفرقة والخصومة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم:” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” ثم شبك بين أصابعه.
وتأتي صلاة الجماعة بمثابةِ صورةٍ مصغرة للمجتمع الإسلامي بأكمله، والذي يكون لهم إمامٌ واحد الذي يقف خلفهُ جماعة متراصين لا فرقة ولا فجوةَ بينهم متوجهيين بأرواحهم وقلوبهم وعقولهم إلى ربهم، مستقبلين بأجسادهم مع إمامهم قبلة دينهم، وتحرمُ عليهم مخالفة الإمام ولا تجوز مسابقته ومساواته مكروهه عندهم، إذا نسى الإمام أو أخطأ لانه ليس معصوم فهو مثلهم ومنهم فتحوا عليه وراجعوه بانتظام وآداب، ينتقون إمامهم وفق ضوابط ومعايير وضعها لهم إسلامهم، تكمن في الكفاءة والتقوى وتغض الطرف عن الأصل أو اللون من غير ما تمييز عنصري أو عِرقي بغيض.
وفي هذه اللحظات يتبادرُ إلى أذهاننا، إن كان المسلمون يجتمعون على هذا الحال وبهذا للإخلاص في اليوم خمس مرات، موزعة على مدار اليوم ، فكيف يكون حالهم، فقد تبدوا عليهم معايير تماسك الجماعة من غياب الأناء والإنصياع لكلام الله ورسوله والانتظام والتشابك ووحدة الهدف وسمو الغاية.
إن في صلاة الجماعة دورٌ هام في تقديم الأدوار الاجتماعية، والتذكير بما ينبغي أن تكون عليه الجماعةُ المسلمة، وتربية الأجيال على هذه المواصفات، لذا عندما غابت صلاة الجماعة من المسلمين، غابت عن المُصلين بعض الظواهر الاجتماعية التي لم تكن بهذه الصورة عند أسلافنا، من الصراع والعصبية وحب الظهور، وتوالى أمور المسلمين من ليسو بأهلها.
وهناك أيضاً الدور الهام الذى تؤديه الجماعةُ في بناء العلاقات الاجتماعية الفعالة التي نجدها في المساجد بين المصليين، حيث ترى البعض أجواء التكافل الاجتماعي والتواصل الفعال بين أوساطِ المجتمعات التي يحرصُ أفرادها على صلاة الجماعة حيث تكون أكثر قوة وتماسكاً بالمقارنة بغيرها.
أما في حين أن المجتمعات المتحضرة، المنشغلة بجلب الحظوظ الدنيوية والمادية، حيث تكاد تنعدم بينهم الجماعات، وتواجد العزل الأسرى عند كل أسرةٍ معزولة منطوية على نفسها، وذلك لدرجة أن بعضاً من الجيران لا يعرفون بعضهم البعض من قلة توادهم وتواصلهم والتقائهم في فرضٍ ما لمسجدٍ قريب. وكان ذلك سبباً رئيسياً فى انتشار الاكتئاب والشعور بالقلق والتوتر والخوف من المستقبل والشعور بالعزلة داخل هذه الأوساط.
وأيضاً ينبغى أن تتغافل عن دور الجماعات في القضاء على بعض الأمراض الاجتماعية الفتاكة، التى تفتك بالمجتمعات وتؤدى إلى الصراعات والبُغض والكراهية بين الأفراد، وعلى قمة هذه الأعراض يأتي الحسد.
وحيث يُدرك المصلين جميعهم أنهم متساوون أمام الله، وإنه سبحانه لم يميز بينهم فى الرزق ولا غيره، وإنما تفاوتت الحظوظ بينهم واختلفت الأدوار من أجل التفاعل الإنسانى وعمارة الأرض، فحين يشعرُ المُصلى الحاسد بوقوف المحسود إلى جانبه في صفٍ واحد وعلى هيئة واحدة، فلا حسدٍ ولا شحناء ولا بغضاء تبقى بينهم، فالكل يركع ويسجد متذللاً لله الرزاق، فلا ذل إلا إليه ولا حاجة إلا عنده جلّ في علاه، يقول: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” العنكبوت:45.