مباحث في أسباب النزول

اقرأ في هذا المقال



لقد أنزل الله كتابه كي يهدي الإنس والجن، ويرشدها إلى الطريق الصحيح، ويقيم لها أُسس الحياة الفاضلة التي تقوم دعامتها على الإيمان بالله ورسالاته، ويقرر أحوال الماضي، ووقائع الحاضر، وأخبار المُستقبل، وأكثر القرآن نزل ابتداء لهذه الأهداف العامة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في حياتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شاهدوا أحداث السيرة، وقد يقع بينهم حادث خاص يحتاج إلى بيان شريعة الله فيه، أو يلتبس عليهم أمر فيسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه لمعرفة حكم الإسلام فيه، فيتنزل القرآن لذلك الحادث، أو لهذا السؤال الطارئ، ومثل هذا يُعرف بأسباب النزول. عناية العلماء به:
وقد اهتم السادة العلماء في علوم القرآن في التعمق لسبب النزول، ووجدوا الحاجة الشديدة إليه في تفسير القرآن فخصص جماعة منهم بكتابة المؤلفات في هذا المجال، ومن أشهرهم: “علي بن المديني” شيخ البخاري، ثم “الواحدي” في كتابه “أسباب النزول”، ثم “الجعبري”الذي اختصر كتاب “الواحدي” بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا، ثم شيخ الإسلام “ابن حجر”الذي ألَّف كتابًا في أسباب النزول أطلع السيوطي على جزء من مسودته ولم يتيسر له الوقوف عليه كاملًا.
ثم، ما يُعْتَمد عليه في معرفة سبب النزول، والعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا إذا كان صريحًا لا يكون بالرأي، بل يكون له حكم المرفوع، قال الواحدي “لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدُّوا في الطلب” .

الأمور المقتصرة عليها سبب النزول بعد البحث:


1- أن تحدث حادثة فتنزل الآيات من القرآن الكريم من أجل هذه الحادثة، وقد جاء عن ابن عباس قال تعالى:﴿وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾ صدق الله العظيم [الشعراء ٢١٤]. خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا، فهتف: “يا صاحباه” ، فاجتمعوا إليه، فقال: “أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟” قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” ، فقال أبو لهب: تبٍّا لك، إنما جمعتنا لهذا؟ ثم قام، فنزلت هذه السورة: ﴿تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ ۝١ مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ ۝٢ سَیَصۡلَىٰ نَارࣰا ذَاتَ لَهَبࣲ ۝٣ وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ ۝٤ فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ ۝٥﴾ صدق الله العظيم[المسد ١-٥].
2- أن يتم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن واقعة حدثت عن شيء فينزل القرآن ببيان الحكم فيه، كالذي كان من خولة بنت ثعلبة عندما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فذهبت تشتكي من ذلك، عن عائشة قالت: “تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرتُ له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما بَرِحَتْ حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِی تُجَـٰدِلُكَ فِی زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِیۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ یَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَاۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ﴾ صدق الله العظيم [المجادلة ١] وهو أوس بن الصامت”.
ولا يجوز الإفراط في علم سبب النزول أو التوسع فيه، ويكون من قبيل الإخبار عن الماضي ، مثال ذلكما جاء عن الواحدي في تفسيره في سورة ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ﴾ من أن سببها قصة قدوم الحبشة، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} سبب اتخاذه خليلًا، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى”

فوائد معرفة سبب النزول:

أ- الوصول إلى التعرف للحكمة التي نزلت بسببها الآية، وهذا له علاقة بالتشريع الإسلامي، المرتبط بمصلحة الأمة.


ب- يأتي لكي يخصص حكم ما أنزل الله، فعندما تأتي الآية وتتكلم عن مسألة خلافية، فنرجع إلى القاعدة وقد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} صدق الله العظيم فقد رُوِيَ أن مروان قال لبوَّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أُوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل يُعذب لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب.
ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} صدق الله العظيم ، قال ابن عباس: سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه”.


جـ- أن ينزل اللفظ الذي يدل على العموم ، ويأتي بعده النص القرآني على الذي يدل التخصيص، فهنا معرفة السبب تُلزم التخصيص على ما بخلاف صورته، ولا يصح إخراجها، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد لأنه ظني، وهذا هو ما عليه الجمهور وقد يُمثَّل لهذا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} صدق الله العظيم.. فإن هذه الآية نزلت في عائشة خاصة، أو فيها وفي سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن حبر الأمة رضي الله عنه: في قوله تعالى : ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡغَـٰفِلَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ﴾ [النور ٢٣]صدق الله العظيم، قال رضي الله عنه: نزلت في السيدة عائشة رضي الله عنها خاصة” وعن ابن عباس في هذه الآية أيضًا: “هذه في عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة
ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعلى هذا فإن قبول توبة القاذف وإن كان مخُصَصًّا لعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} صدق الله العظيم لا يتناول بالتخصيص مَن قذف عائشة، أو قذف سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا لا توبة له، لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي.
د- كذلك من فوائد – نزول السورة أو الآية طريق من الطرق التي نفهم فيها معاني القرآن، وإظهار الغموض الذي يكون في بعض الآيات في تفسيرها ما لم نعرف عن سبب النزول، قال الواحدي: “لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها” وقال ابن دقيق العيد: “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن” ومن أمثلة ذلك: ما أشكل على مروان بن الحكم في فهم الآية الآنفة الذكر: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} صدق الله العظيم، حتى ذكر له ابن عباس سبب النزول.
وما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} صدق الله العظيم، فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض، لأن رفع الجُناح يفيد الإباحة لا الوجوب.



شارك المقالة: