اقرأ في هذا المقال
لا يمكننا الحصول على أي معرفة حقيقية مسبقًا، ويرى ميل أنّه لا يمكن الحصول على المعرفة إلّا من خلال الملاحظة التجريبية، ومن خلال التفكير الذي يحدث على أساس مثل هذه الملاحظات، حيث يقف هذا المبدأ في قلب تجربته الراديكالية، فتصورات الحس هي: “البيانات الأصلية أو المباني النهائية لمعرفتنا”، حيث يتم الوصول إلى المعرفة بمستويات أعلى من التعقيد فقط من خلال الاستنتاجات من تلك البيانات الأصلية، ويمنح ميل صلاحية نوع واحد فقط من الاستدلال، وبالتالي كل الأدلة وكل اكتشاف للحقائق غير بديهية يتكون من الاستدلالات وتفسير الاستدلالات.
مفهوم الاستقراء:
يمكن تعريف الاستقراء بشكل صحيح بما يسمى بإيجاز على أنّه تعميم من التجربة، وهو يتألف من استنتاج من بعض الحالات الفردية التي لوحظت فيها ظاهرة تحدث، وأنّها تحدث في جميع حالات فئة معينة، أي في كل ما يشبه السابق، في ما يعتبر ظروفًا مادية.
حيث يلاحظ ميل بحق أنّه عند ملاحظة أن x1 ،x2 x3 ،xn هي P، فإنّ البشر يميلون إلى تكوين الاعتقاد بأنّ بعضًا متشابهًا بشكل ملائم xn + 1 هو P، وعند رؤية عشر بجعات كلها بيضاء على سبيل المثال نميل إلى نعتقد أنّ البجعة الحادية عشر غير المرئية بيضاء أيضًا، ولكن يرى ميل أنّ مثل هذه الاستنتاجات ليست شيئًا نميل إلى تصديقه فحسب بل شيء لدينا سبب للاعتقاد به.
فلسفة ميل في التبرير الاستقرائي:
الاستنتاجات من هذا الشكل العام لها ما يبررها، والسؤال الذي يطرح نفسه بالطبع كيف يمكن أن يكون لنا ما يبرر تصديق نتائج الاستقراء قبل تأكيدها أو عدم تأكيدها، وكيف يمكن تبرير تصديق استنتاج مقترح استقرائي.
يقدم ميل إجابتين على هذا السؤال وهما:
- الأولى: يمكن أن نطلق عليه التحقق التكراري من الاستقراء، حيث يعتقد ميل أنّ هناك ما يبرر تصديق الحث العددي، لأنّ الكون بقدر ما نعرفه متشكل بحيث أن كل ما هو صحيح في أي حالة واحدة يكون صحيحًا في جميع حالات فيوصف معين، وهذا يعد التوحيد في الطبيعة، ومع ذلك هو شيء لا نعرفه مسبقًا ولا يمكننا أن نعرفه مسبقًا بل هو نفسه فقط كمثال للاستقراء ونحن نعلم، بعبارة أخرى بفعل الاستقراء أن التعميمات الاستقرائية تميل إلى أن تكون صحيحة، وبالتالي فإنّ الاستقراء هو طريقة جيدة للتفكير، والاستقراء بهذا المعنى ذاتي الدعم.
بالطبع هذا التبرير دائري كما يدرك ميل، وإذا كان لدينا ما يبرر الاعتقاد بأنّ الاستقراء بشكل عام طريقة جيدة للتفكير فقط إلى الحد الذي تعتبر فيه تحريضاتنا السابقة نفسها استنتاجات جيدة، فإنّ السؤال يبقى كيف يمكن أن تبرر هذه الاستدلالات أشكالًا من الاستدلال. - الثانية: والتي يمكن أن نطلق عليها بدء التحقق من صحة الاستقراء، حيث تتناول هذه المشكلة العديد من التماثلات الموجودة بين الظواهر ثابتة للغاية ومنفتحة للغاية على الملاحظة بحيث تفرض نفسها على الاعتراف غير الطوعي.
نحن كما يدعي ميل نميل بشكل طبيعي إلى التفكير بشكل استقرائي، وعند الفحص النقدي فإنّ أعمال الاستقراء تصيبنا بأنّها تستحق الاعتماد، ونحن نتبنى الاستقراء بشكل عفوي كطريقة للتفكير حيث وفي ظل مراعاة مجانية، يبدو لنا من المعقول القيام بذلك.
فلسفة ميل في التحقق من صحة الاستقراء:
إن بدء التحقق من صحة مبدأ الاستقراء يتوازى بشكل مباشر مع حجة ميل لمبدأ المنفعة، ونحن نميل بطبيعتنا إلى الرغبة في المتعة، وهذه الرغبات عندما نلتزم بها تبدو لنا معقولة وذلك باعتبارها جديرة بالرغبة، وبالمثل نحن بطبيعة الحال نميل إلى الاعتقاد في التعميمات الاستقرائية، ومثل هذه المعتقدات عندما نلتزم بها تبدو لنا منطقية كونها جديرة بالإيمان.
في كل حالة لا يوجد تبرير أولي آخر لميولنا المنطقية الطبيعية تتجاوز حقيقة أنّها حرجة عند الفحص فتبدو لنا سليمة، وفي الواقع إنّ مبادئ العقل الصحيحة – العملية والنظرية – قد تم تأسيسها من خلال إلقاء نظرة نقدية على كيفية قيامنا بالعقل في الواقع ولا ينبغي أن يكون مفاجئًا، حيث مثل هذا النهج الأنثروبولوجي للمعيار تفرضه طبيعة ميل، ولا يمكننا أن نعرف ما الذي يشكل تفكيرًا جيدًا ببداهة، وعلى هذا النحو قوانين ملكتنا العقلانية مثل تلك الموجودة في كل وكالة طبيعية أخرى لا يتم تعلمها إلّا من خلال رؤية الفاعل في العمل.
إنّ الدليل المقدم من خلال الفحص النقدي لأساليبنا الطبيعية في التفكير هو بالطبع غير قابل للتطبيق، كما في حالة إثبات مبدأ المنفعة، فإنّ بدء التحقق من الصحة ليس دليلاً بالمعنى الاستنتاجي التقليدي، ولكن التبرير المقدم حقيقي مع ذلك.
ومن هنا يمكن أن يزيد التحقق التكراري من ثقتنا بأننا مبررون في الاستدلال الاستقرائي، أي يمكن أن تؤدي الحوافز الإضافية التي تتراوح بين التحريضات إلى تحسين قدراتنا المنطقية من خلال إنشاء طرق أكثر دقة للظروف التي تكون فيها التحركات الاستقرائية جيدة للقيام بها، وفي الواقع فإنّ عملية شحذ الاستدلال الاستقرائي عن طريق المراجعة الخفية للتعميمات التلقائية، وهي قلب عملية التفكير العلمي.
ولا يدعي ميل أنّ الاستقراء العددي هو مبدأ صالح فحسب بل يدعي أنّه المبدأ الوحيد الذي من خلاله نبرر استنتاج حقائق غير ملحوظة عن العالم، على وجه الخصوص فهو يرفض الصلاحية المستقلة للطريقة الافتراضية، والتي أصبحت تُعرف باسم الاستدلال على أفضل تفسير، ولا يحق لنا وهذا يعني أن نؤمن بشيء لا يتم ملاحظته فقط على أساس أنّه يشرح الحقائق المرصودة، والفرضية:
“ربما لا يتم قبوله صحيحًا لأنّه يمثل جميع الظواهر المعروفة، حيث لأنّ هذا شرط يتم الوفاء به في بعض الأحيان بشكل جيد من خلال فرضيتين متعارضتين.”
لكن هذا لا يعني إنكار دور الفرضية في التحقيق تمامًا، ويدعي ميل أنّ الفرضيات حول الكيانات غير المرصودة في محاولة لشرح الملاحظات التجريبية يمكن أن تقدم اقتراحات مفيدة، ولكن هذا الحق في الاعتقاد لا يمكن توفيره إلّا من خلال التفكير القائم على مبدأ الاستقراء العددي، فالفرضية من خلال اقتراح الملاحظات والتجارب تضعنا على الطريق إلى هذا الدليل المستقل إذا كان من الممكن تحقيقه حقًا.