مفهوم المثل:
المثل هو قول يتسم يالإيجاز، محكم بناؤه، وقيل بلغة مبسطة فـي مـواقف معينة مـن المواقف الحياتية، وهو يلخص تلك المواقف، وكما يظهر العبرة فيه، وتتداوله الألسن فيشيع وينتشر، بحيث يصبح مثلًا يقوم الناس بترديده وتكراره في كل موقف، شبيه بالموقـف الـذي ورد فيـه.
الأمثال الشعبية تجعل الكلام يكسب السحر والجمال وسطوعاً والروعة والبيان، والأمثال تقوم باستثارة النفـوس والعـواطف، وكما أنها تملك القلوب والمشاعـر، وتقـوم الأمثال مقـام الحجـج والبراهـين؛ وذلك لصحـة أحكامهـا، وصـدق مدلولاتها، وهي تسيـر سيـرورة الشعـر وتعمل عمله وتذيع ذيوعه، بل إن المثل يعدّ هو الأقوى دلالة من الشعر في تصوير أخلاق الأمم وتفكيرها وعقليتها وتقاليدها وعاداتها وتصوير المجتمع وحياته وشعوره، أتم تصوير في مرآة الحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية؛ لأن الشعر لغة طائفة ممتازة، أما المثل فلغة جميع الطبقات.
كما أن الأمثال غالبًا ما تكون مجهولة القائل، إلى جانب أن المدة الزمنية التي قيلت فيها قد تكون غير معروفة، فلا يعرف الشخص الذي قال المثل، حتى أن المتمثل به يسبقه بقوله: “على رأي المثل”، وقـد وصلت الأمثال إلينا عبر كثرة تكرارها على ألسن عامة الناس في المواقف المشابهة للموقف الأول الذي قيل فيه، وبالصيغة التي قبل بها، من غير تغيير في نصه، أو لفظه، أو شكله.
قصة مثل إياكِ أعني واسمعي يا جارة:
يُضرب هذا المثل: “إياك أعني واسمعي يا جارة”، حين يكون الكلام في ظاهره بمعنى وبداخله يحمل معاني مخفية، وبمعنى أكثر صحة يُراد من وراء هذا الكلام غير مدلوله، هذا المثل قديم؛ كثيرًا ما يستعمله الناس للتعبير بشكل غير مباشر، أو بطريق المجاز والتشبيه، عمّا في أذهانهم، بحيث يفهمه السامع من دون مجابهته أو خدش مشاعره، كما يقال أحيانًا ممن يخاطب شخصًا ويقصد بكلامه شخصًا آخر، وهو من الأمور الشائعة في المجتمعات التي اعتادت مراعاة قواعد الأدب واللياقة، حسن المقال من أهم القواعد الاجتماعية التي تتضمن هذا المثل وشاعت في التراث العربي منذ أقدم العصور، وقد عبّر عنها الشاعر بقوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال.
في كثير من الأحيان نجد في الأمثال الشعبية ما يحثّ المرء على أن يحسن المقال، وأن يحذر من زلات اللسان وإثارة السامع، نقول: “الجواب في محله أحلى من العسل”، ونقول: “حلي لسانك وكل الناس خلاتك”، و:”كم من فم سفك دم”، ويقولون في المملكة العربية السعودية: “قال وش قاطعك يا راسي؛ قال لساني”، و”كل كلمة لها مكيال”، و”كلمة وردّ غطاها” وكذلك: “عثرتك برجلك ولا عثرتك بلسانك”، ومن الأقوال الشائعة في بعض البلدان العربية: “ألف كسرة رِجل ولا كسرة خاطر”، ومن الأقوال الشائعة في اليمن: “من عاش مداري (أي يداري خواطر الناس) مات مستور”.
أما أصل مثل “إياكِ أعني واسمعي يا جارة”‘، فيرجع إلى رجل من بني فزارة، هو “سهل بن مالك الفزاري”، وقد كان في طريق سفر إلى مدينة الحيرة في العراق ليلتحق بالملك النعمان بن المنذر، ومرّ بحي من أحياء بني طيء، فسأل عن سيد الحي، فقالوا له: إنه حارثة بن لأم، فتوجّه نحوه فلم يجده، ولكنه صادف أخته، فرحبت به وأنزلته وأعدت له ما كان من طعام وشراب، وعندما خرجت من خبائها لاحظ ما كان لها من جمال وحسن قامة، وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائهم، فأصابه ما أصابه من هواها، ولم يعرف كيف يفتح لها قلبه ويكاشفها بحبه، فجلس في فناء الخباء يومًا، وهي تسمع صوته، وجعل ينشد ويقول:
يا أخت خير البدو والحضارة
كيف ترين في فتى فزارة
أصبح يهوى حرة معطارة
إياك أعني واسمعي يا جارة
حيث أن كلماته لم تقع في نفسها بما كان يرجوه الفزاري، فأنشدت من وراء الخدر، وقالت:
إني أقول يا فتى فزارة
لا أبتغي الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هذي الجارة
فارحل إلى أهلك باستخارة
خجل سهل بن مالك من نفسه، وقال: “والله ما بغيت منكرًا، واسوأتاه”، فخجلت من تسرعها في الحكم عليه، وقالت له: “صدقت”، ثم رحل، وأتى النعمان بن المنذر فقام بإكرامه، ثم رجع من حيث أتى، وفي طريق عودته مرّ على نفس الديار، وبينما حلّ عند أخيها، تطلعت إليه نفسها، فأرسلت إليه أن “اخطبني من أخي إن كانت لك حاجة بي”، فخطبها وتزوج بها، وسار بها إلى قومه، فحكى لهم حكايته وما أنشده من شعر وما ردت به عليه من شعر، فسارت كلماتهما مثلًا بين العرب، بدوًا وحضرًا.