اقرأ في هذا المقال
الأفلاطونية حول الرياضيات (أو الأفلاطونية الرياضية) هي النظرة الميتافيزيقية بأنّ هناك أشياء رياضية مجردة يكون وجودها مستقلاً عنا وعن لغتنا وفكرنا وممارساتنا، مثلما توجد الإلكترونات والكواكب بشكل مستقل عنا كذلك توجد الأرقام والمجموعات، ومثلما يتم جعل البيانات حول الإلكترونات والكواكب صحيحة أو خاطئة من خلال الكائنات المعنية بها وخصائص هذه الكائنات الموضوعية تمامًا كذلك البيانات المتعلقة بالأرقام والمجموعات، لذلك يتم اكتشاف الحقائق الرياضية وليس اختراعها.
التعريف الرسمي للأفلاطونية الرياضية:
الأفلاطونية الرياضية والمعرَّفة رسميًا بأنّها هي وجهة النظر القائلة:
- توجد أشياء مجردة – أشياء غير زمانية وزمنية وغير مادية تمامًا.
- هناك جمل رياضية حقيقية توفر وصفًا حقيقيًا لمثل هذه الأشياء، وسوف تتناول الأفلاطونية التالية مناقشة كلاً من هذين البندين.
مفهوم الشيء المجرد:
من الأفضل أن نبدأ بما يعنيه الشيء المجرد بين الأفلاطونيين المعاصرين، حيث وجهة النظر الأكثر شيوعًا هي أنّ السمة المحددة حقًا للشيء المجرد هي عدم الزمانية، أي أنّ الأشياء المجردة لا توجد في أي مكان في الكون المادي، وهي أيضًا غير ذهنية تمامًا، ومع ذلك فهي موجودة دائمًا وستظل موجودة دائمًا.
وهذا لا يمنع وجود أفكار عقلية عن الأشياء المجردة، ووفقًا للأفلاطونيين يمكن للمرء على سبيل المثال أن يكون لدى المرء فكرة ذهنية عن الرقم 4، ومع ذلك لا يتبع ذلك أنّ الرقم 4 مجرد فكرة عقلية، وبعد كل شيء لدى الناس أفكار عن القمر في رؤوسهم أيضًا لكن لا يتبع ذلك أنّ القمر مجرد فكرة، لأنّ أفكار القمر والناس عن القمر هي أشياء مميزة، وهكذا عندما يقول الأفلاطونيون أنّ الرقم 4 هو كائن مجرد فإنّهم يقصدون القول إنّه شيء حقيقي وموضوعي مثل القمر، وموجود بشكل مستقل عن الناس وعن تفكيرهم ولكنه على عكس القمر غير مادي.
الأشياء المجردة أيضًا وفقًا للأفلاطونيين غير متغيرة وغير سببية تمامًا، نظرًا لأنّ الكائنات المجردة لا تمتد في الفضاء وليست مصنوعة من مادة مادية، ويترتب على ذلك أنّها لا تستطيع الدخول في علاقات السبب والنتيجة مع الكائنات الأخرى.
يزعم الأفلاطونيون أيضًا أنّ النظريات الرياضية تقدم أوصافًا حقيقية لمثل هذه الأشياء، فإلى ماذا تصل هذه المطالبة؟ تأمل الأعداد الصحيحة الموجبة (1 ، 2 ، 3 ، …)، فوفقًا لأفلاطونيين فإنّ نظرية الحساب تقول ما يشبه تسلسل الأشياء المجردة.
على مر السنين اكتشف علماء الرياضيات كل أنواع الحقائق المثيرة للإهتمام حول هذا التسلسل، على سبيل المثال أثبت إقليدس منذ أكثر من 2000 عام أنّ هناك عددًا لا نهائيًا من الأعداد الأولية بين الأعداد الصحيحة الموجبة، وبالتالي وفقًا لأفلاطونيين فإنّ تسلسل الأعداد الصحيحة الإيجابية هو موضوع للدراسة، تمامًا مثل النظام الشمسي هو موضوع دراسة لعلماء الفلك.
حتى الآن تمت مناقشة نوع واحد فقط من الأشياء الرياضية ألا وهو الأعداد، ولكن هناك العديد من الأنواع المختلفة من الأشياء الرياضية – وظائف ومجموعات وناقلات ودوائر وما إلى ذلك – وبالنسبة للأفلاطونيين فهذه كلها أشياء مجردة، علاوة على ذلك يعتقد الأفلاطونيون أيضًا أنّ هناك أشياء مثل التسلسل الهرمي لنظرية المجموعات وأنّ نظرية المجموعات تصف هذه الهياكل، وهكذا دواليك لجميع فروع الرياضيات المختلفة، وبشكل عام وفقًا للأفلاطونيين فإنّ الرياضيات هي دراسة طبيعة الهياكل الرياضية المختلفة والتي هي مجردة في الطبيعة.
كانت الأفلاطونية موجودة منذ أكثر من ألفي عام وعلى مر السنين كانت واحدة من أكثر الآراء شعبية بين فلاسفة الرياضيات، ومع ذلك بالنسبة لمعظم تاريخ الفلسفة كانت الأفلاطونية الرياضية راكدة، وفي أواخر القرن التاسع عشر طور جوتلوب فريجالألماني الذي أسس المنطق الرياضي الحديث، وما يُعتقد على نطاق واسع أنّه أقوى حجة لصالح الأفلاطونية لكنه لم يغير صياغة الرأي.
وبالمثل في القرن العشرين قدم كيرت جودل من النمسا وويلارد فان أورمان كوين من الولايات المتحدة فرضيات في محاولة لشرح كيف يمكن للبشر اكتساب المعرفة بالأشياء المجردة، ولكن مرة أخرى لم يغير أي من هذين المفكرين النظرة الأفلاطونية نفسها، حيث كانت فرضية جودل تدور حول طبيعة البشر، وكانت فرضية كواين تدور حول طبيعة الدليل التجريبي.
إصدارات غير تقليدية في الأفلاطونية الرياضية:
خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي طور العديد من الأمريكيين ثلاثة إصدارات غير تقليدية من الأفلاطونية الرياضية:
- إصدار من قبل بينيلوبي مادي Penelope Maddy.
- إصدار ثاني من قبل مارك بالاغير Mark Balaguer وإدوارد زالتا Edward Zalta.
- بينما الإصدار الثالث لمايكل ريسنيك Michael Resnik وستيوارت شابيرو Stewart Shapiro.
جميع الإصدارات الثلاثة مستوحاة من المخاوف المتعلقة بكيفية اكتساب البشر لمعرفة الأشياء المجردة.
الإصدار الأول:
وفقًا لمادي Penelope Maddy فإنّ الرياضيات تدور حول الأشياء المجردة، والأشياء المجردة بمعنى ما غير المادية وغير المعدنية، على الرغم من أنّها تقع في المكان والزمان، فقد طور مادي هذه الفكرة بشكل كامل فيما يتعلق بالمجموعات.
بالنسبة لهذه الفكرة توجد مجموعة من الأشياء المادية حيث توجد الأشياء المادية نفسها، على سبيل المثال إذا كان هناك ثلاث بيضات في الثلاجة فإنّ المجموعة التي تحتوي على تلك البيض موجودة أيضًا في الثلاجة، وقد يبدو هذا منطقيًا بشكل بارز، وقد يتساءل المرء عن سبب اعتبار مادي أفلاطونيًا على الإطلاق، أي قد يتساءل المرء عن سبب اعتبار مجموعة البيض كائنًا غير مادي في وجهة نظر مادي.
من أجل تقدير سبب كون مادي أفلاطونيًا (بمعنى ما غير تقليدي)، من الضروري معرفة شيء ما عن نظرية المجموعات – وعلى الأخص أنّه لكل كائن مادي أو كومة من الأشياء المادية، هناك عدد لا نهائي من المجموعات، على سبيل المثال إذا كان هناك ثلاث بيضات في الثلاجة فعندئذٍ يكون المقابل لهذه البيضات هو المجموعة التي تحتوي على البيض، والمجموعة التي تحتوي على تلك المجموعة، والمجموعة التي تحتوي على تلك المجموعة وهلم جرا.
علاوة على ذلك هناك أيضًا مجموعة تحتوي على مجموعتين مختلفتين – أي المجموعة التي تحتوي على البيض والمجموعة التي تحتوي على المجموعة التي تحتوي على البيض – وهكذا بدون نهاية، وبالتالي فإنّ الجمع بين مبادئ نظرية المجموعات (التي تريد مادي الحفاظ عليها) مع أطروحة مادي القائلة بأنّ المجموعات موجودة في مكان مكاني ومكاني يشير إلى أنّه إذا كان هناك ثلاث بيضات في ثلاجة معينة، فهناك أيضًا عدد لا نهائي من المجموعات في الثلاجة.
بالطبع لا يوجد سوى كمية محدودة من الأشياء المادية في الثلاجة، وبشكل أكثر تحديدًا يحتوي على مجموعة صغيرة نوعًا ما من البيض، وهكذا بالنسبة لمادي فإنّ المجموعات المختلفة التي تم إنشاؤها من مادة البيض هذه تختلف جميعها عن الركام نفسه.
ومن أجل تجنب تناقض مبادئ نظرية المجموعات يتعين على مادي أن تقول إنّ المجموعات تختلف عن مجموع البيض، وعلى الرغم من أنّها تريد الحفاظ على أنّ كل هذه المجموعات موجودة في الثلاجة، عليها أن تقول إنّها غير مادية بمعنى ما، ومرة أخرى السبب الذي جعل مادي غيرت وجهة النظر الأفلاطونية من خلال إعطاء مجموعات من الوجود الزماني المكاني هو أنّها اعتقدت أنّه كان ضروريًا لتوضيح كيف يمكن لأي شخص اكتساب المعرفة بالأشياء المجردة.
الإصدار الثاني:
بالنسبة إلى بالاغير Balaguer و زالتا Zalta من ناحية أخرى فإنّ الإصدارات الوحيدة من الأفلاطونية التي يمكن الدفاع عنها هي تلك التي تحافظ ليس فقط على وجود الأشياء المجردة ولكن على وجود أكبر عدد ممكن من الأشياء المجردة، وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ أي نظام للكائنات الرياضية التي يمكن تصورها بإستمرار يجب أن يكون موجودًا بالفعل، وأطلق بالاغير على هذا الرأي اسم “الأفلاطونية الكاملة”، وقد جادل بأنّه فقط من خلال تأييد هذا الرأي يمكن للأفلاطونيين أن يشرحوا كيف يمكن للبشر اكتساب معرفة الأشياء المجردة.
الإصدار الثالث:
أخيرًا تُعرف النسخة غير التقليدية من الأفلاطونية التي طورها ريسنيك وشابيرو بالبنيوية، فالأفكار الأساسية هنا هي أنّ الأشياء الحقيقية للدراسة في الرياضيات هي الهياكل أو الأنماط – أشياء مثل السلاسل اللانهائية والمساحات الهندسية والتسلسل الهرمي النظري للمجموعة – وأنّ الأشياء الرياضية الفردية (مثل الرقم 4) ليست في الحقيقة كائنات على الإطلاق بالمعنى العادي للمصطلح، وبدلا من ذلك فهي مجرد مواقف في الهياكل أو الأنماط ويمكن توضيح هذه الفكرة من خلال التفكير أولاً في الأنماط غير الرياضية.
فكر في دفاع البيسبول والذي يمكن اعتباره نوعًا معينًا من الأنماط، فهناك لاعب أيسر ولاعب أيمن ولاعب قصير وإبريق وما إلى ذلك، هذه كلها مواضع في النمط أو الهيكل العام وكلها مرتبطة بمناطق معينة في ملعب بيسبول، الآن عندما يأخذ فريق معين الملعب ويشغل اللاعبون الحقيقيون هذه المناصب.
وعلى سبيل المثال خلال أوائل القرن العشرين احتل هونوس واجنر عادةً موقعًا قصير المدى لقراصنة بيتسبرغ، وكان كائنًا محددًا حيث له موقع زماني مكاني، ومع ذلك يمكن للمرء أن يفكر أيضًا في موقف قصير Shortstop نفسه، حيث إنّه ليس موضوعًا بالمعنى العادي للمصطلح بل هو دور يمكن أن يقوم به أشخاص مختلفون.
وفقًا لريسنيك وشابيرو يمكن قول أشياء متشابهة عن الهياكل الرياضية، حيث إنّها شيء يشبه الأنماط وتتكون من مواضع يمكن ملؤها بالأشياء، على سبيل المثال الرقم 4 هو الموضع الرابع فقط في نمط العدد الصحيح الموجب، ويمكن وضع كائنات مختلفة في هذا الموضع ولكن الرقم نفسه ليس كائنًا على الإطلاق بل إنّه مجرد موقف.
يعبر البنيويون أحيانًا عن هذه الفكرة بالقول إنّ الأرقام ليس لها خصائص داخلية أو أنّ خصائصها الوحيدة هي تلك التي لديهم بسبب العلاقات التي تربطهم بأرقام أخرى في الهيكل، على سبيل المثال 4 له خاصية كونه بين 3 و 5، وهذا مشابه للقول أنّ موقف القصير shortstop ليس له خصائص داخلية بالطريقة التي تعمل بها الوقفات القصيرة الفعلية، وأيضاً على سبيل المثال ليس لها ارتفاع أو وزن أو جنسية، فالخصائص الوحيدة التي تمتلكها هي خصائص هيكلية مثل خاصية التواجد في أو بالقرب من أرض الملعب بين رجل القاعدة الثالث ورجل القاعدة الثاني.