كان جد الفيلسوف مارتن بوبر باحثًا في أدب المدراش واليوناني وعلمه العبرية، فدرس الأدب والفلسفة اليهودية وبدوره انغمس في فلاسفة ألمان آخرين وخاصة سورين كيركيغارد الذي كان فيلسوفًا مسيحيًا، وفريدريك نيتشه الذي وضع نظرية موت الإله، وسينتهي عمل بوبر بالتركيز على العلاقات الإنسانية والمعاملة بالمثل وتوليف التقاليد الفلسفية المتعددة وتأسيس مدرسته الفكرية الخاصة التي ستُطلق عليها اسم فلسفة الحوار.
المسافة والعلاقة:
ردًا على الفوضى السياسية التي تتكشف في أوروبا والصراع بين اليهود والعرب في فلسطين، اتخذت أعمال بوبر الفلسفية شكلا أكثر عرضية ومقالية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بالإضافة إلى الكثير من الأعمال والأعمال المتعلقة بالدين والكتاب المقدس والإيمان النبوي كان آخر منشوراته الفلسفية الرئيسية هي كسوف الله في عام (The Eclipse of God) 1951.
إنّ ما يوحد جميع الأعمال المتأخرة كمجموعة هو التركيز المشترك على الأنثروبولوجيا الفلسفية، في مكانة الفرد في العالم مقارنة بالبشر الآخرين في المجتمع البشري، حيث سواء كان التفكير في الإنسان أو اليهودي أو الوحيد دائمًا ما يكون أمرًا حاسمًا لفكر بوبر المتأخر هو التوتر بين المسافة والعلاقة، ودور الصور الوسيطة في العلاقة الحوارية المفتوحة وغير الثابتة للعالم الاجتماعي والطبيعي.
في هذا تناول بوبر ولكن ليس بشكل مباشر التوتر بين الحقيقة والقيمة، والذي تم استكشافه بمزيد من الصرامة في الفلسفة الألمانية اللاحقة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وفي الفلسفة التحليلية الأنجلو أمريكية بعد الحرب.
فلسفة بوبر في الانغماس في الذات:
واحدة من القطع المميزة لهذه الفترة هي مقال عن الفيلسوف سورين آبيي كيركيغارد (السؤال إلى العازب) في عام 1936، حيث يلجأ بوبر إلى كيركيغارد من أجل فرض مسألة الانغماس في الذات، وبالنسبة لبوبر يرمز الفيلسوف الدنماركي إلى الاغتراب الحديث عن العالم، والسؤال الذي يطرحه بوبر هو ما إذا كان من الممكن حتى تصور الإنسان على أنّه كائن واحد.
وفقًا لبوبر فإنّ محبة كيركيغارد لله تستبعد حب جاره المخلوق الرفاق الذي نشكل معه العالم من الناحية الإنسانية، ومن خلال عينه على إنشاء سفر التكوين يصف بوبر الإنسان كموضوع يحوم فوق العالم المخلوق ويحتضنه، وفي هذا النموذج لا يوجد تنازل عن الأشياء والحياة السياسي.
وفي نفس الوقت العلاقة لا تعني تسليم الذات للجمهور، فلا يزال احتضان الوجود المخلوق أمرًا مزعجًا، وهنا يميّز بوبر الإنسان من حيث الإمكانية ضمن حدود واقعية ومحدودة، وليس من حيث التطرف الذي يراه في كيركيغارد، وهذا يعني بدلاً من فرض انقسام جذري بين المجتمع والآخر، فيجادل بوبر بأنّهما متوافقان مع بعضهما البعض وضرورتهما.
إنّ هذا النقد للفرد فيما يتعلق بعالم اجتماعي أكبر ينتمي إلى الصورة العالمية التي وضعها بوبر في مقاله (ما هو الإنسان؟) في عام 1938، حيث كان على المحك بالنسبة لبوبر معرفة الشخص البشري ككل أي الفهم الكامل للذاتية البشرية، فالمفتاح المنهجي للمقال هو الأنثروبولوجيا الفلسفية، كما افترض بوبر أنّه فقط من خلال الدخول في فعل التأمل الذاتي يمكن لعالم الأنثروبولوجيا الفلسفي أن يدرك كمال الإنسان على أساس التمييز البنيوي بين عهود السكن البشري وعهود التشرد البشري.
في السابق تعتبر الأنثروبولوجيا الفلسفية كونية، أي مرتبطة بشكل أساسي بالعالم والبيئات البشرية، وفي الأخير يُنظر إلى الذاتية البشرية على أنّها قائمة بذاتها ومستقلة، كما إنّ التوتر المفاهيمي هو بين الوجود في المنزل في عالم من الأشياء على عكس ما يتم تقديمه على أنّه انهيار لعالم مستدير وموحد مقابل أشكال الوعي المنفصلة بذاتها، ومن أجل الحفاظ على تداخل الذات الفردية وترابط الشخصية البشرية رفض بوبر الاختيار الخاطئ بين الفردية والجماعية.
يكمن كمال الإنسان كما فهمها بوبر دائمًا في لقاء أحدهما مع الآخر في علاقة حية رباعية الأبعاد بالأشياء والأشخاص الفرديين وسر الوجود والذات، وكل علاقة حية ضرورية وتساهم في كمال الإنسان لأنّ كمال الإنسان (جوهر الإنسان الفريد) لا يُعرف أو يُفترض إلّا في عيش مجموعة من العلاقات.
إذا كانت العلاقة تشكل المرجع الأساسي لكامل الإنسان يظل صحيحًا أيضًا أنّ بوبر لم يفهم العلاقة بشكل مستقل عن نقيضها المفاهيمي أي المسافة، كما تم تطويره في مقال المسافة والعلاقة في عام 1951، فلا يمكن أن تتشكل العلاقة بمعزل عن أو بدون الإعداد المسبق للأشياء والأشخاص والكائنات الروحية على مسافة.
بالنسبة لبوبر فإنّ هذا الإعداد للأشياء والأشخاص والكائنات عن بعد هو الطريقة الوحيدة لتأمين شكل الآخر الذي بدونه لا يمكن أن تكون هناك علاقة، ولأنّه بدون شكل الآخر لا يمكن أن يكون هناك تأكيد للذات بقدر ما يتم دائمًا التوسط لتأكيد الأنا من قبل الآخر الذي يؤكدني سواء على مسافة أو فيما يتعلق، أو بالأحرى في المسافة التي هي الصلة والعلاقة التي هو الاختلاف.
تكوين العالم:
في حين أنّ بوبر كان أكثر شهرة فهم علاقة أنا وأنت على أنّها علاقة قائمة على الفورية، إلّا أنّه دائمًا ما غرس تفكيره في قوة الصور الوسيطة والأشكال البلاستيكية الأخرى باعتبارها مادة مادية للعلاقة بين الذات، ففي مقاله الإنسان وعمله على الصور شرع بوبر في فهم شيء ما عن تكوين الصور فيما يتعلق بالعالم، والعالم المحاط بالفن والإيمان والحب والفلسفة.
مستويات تكوين العالم:
افترض بوبر ثلاثة مستويات من تكوين العالم وهما:
المستويان الأولان هما المفاهيم الكانطية المألوفة لعالم (noumenal x) وعالم الإحساس الهائل للشكل، الذي يشتمل على العالم على شكل صور ومفاهيم، كما إنّ مفهوم بوبر عن المستوى الثالث وما يسميه عالم الشكل المثالي مشتق من التقليد الصوفي، ويتم التعبير عن هذا المستوى المتناقض من تكوين العالم من حيث العلاقات الشكلية المثالية في الفن والإيمان والفلسفة ينبثق عمل الصورة البشرية من اللقاءات العلائقية بين الأشخاص وعالم مستقل موجود بمفرده ولكن لا يمكن تخيله.
ظهر القلق بشأن (الصور) فيما يتعلق بالمسافة والحوار مرة أخرى في آخر أعمال بوبر الرئيسية كسوف الله في عام 1952، وكان ما يسمى بـ (كسوف الله) رمز بوبر للأزمة الروحية في الحضارة الغربية ما بعد الحرب، ولقد حددت الانهيار الفلسفي بقدر الانهيار الأخلاقي، ومثل الفيلسوف الفرنسي جان بول تشارلز أيمارد سارتر والفيلسوف الألماني مارتن هايدجر وجه بوبر انتباهه إلى الوجود الملموس، ولكن على عكس زملائه الوجوديين تأثر بوبر بالتفاعل بين البشر فرديًا وجماعيًا وواقع مطلق يتجاوز الخيال البشري.
ضد الفلاسفة سارتر وهايدجر وكارل يونج أيضًا رفض بوبر صورة الذوات البشرية المنغلقة على ذاتها وعوالم الحياة البشرية المنغلقة على نفسها والتي لا توجد بعدها حقائق خارجية ومستقلة، وفي نهاية حياته المهنية ككاتب ومفكر سعى بوبر إلى الحفاظ على التمييز والعلاقة بين الذات البشرية والآخر الخارجي من أجل الحفاظ على مصدر وجودي للقيمة الأخلاقية في مقابل المطلقات الزائفة للعالم الحديث الذي كان لديه المطلق مع المنتجات السياسية والتاريخية للروح البشرية.