التطور النظري في فلسفة كاستورياديس والكانطية

اقرأ في هذا المقال


من الممكن فهم أعمال الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس على نطاق واسع على أنّها انعكاس لمفهوم الإبداع وآثاره في مختلف المجالات، ولعل الأهم من ذلك أنّه حذر من العواقب السياسية والأخلاقية الخطيرة لعالم معاصر فقد الاستقلال الذاتي، أي الحاجة إلى وضع حدود أو قوانين لنفسه.

التطورات النظرية لدى كاستورياديس:

بين نهاية المجموعة الاشتراكية أو البربرية في عام 1966 ونشر المؤسسة الخيالية للمجتمع (L’institution imaginaire de la société) في عام 1975، تغير المضمون والموضوع الواضح لعمل كاستورياديس بشكل ملحوظ، فخلال الفترة المتبقية من حياته انخرط في مجموعة متنوعة من التخصصات بما في ذلك التحليل النفسي وعلم الأحياء وعلم الاجتماع وعلم البيئة والرياضيات، حيث كانت وجهات نظره المحددة في كل مجال مرتبطة دائمًا تقريبًا بنظريته العامة للخيال الإبداعي -التي تعمل على المستويين الفردي والجماعي- وبتأثيراتها على كل تخصص.

كما جادل كاستورياديس بأنّ دور الفلسفة هو اختراق إغلاق أي خيال اجتماعي مؤسس من أجل إتاحة موقف تداول حول ما يجب على البشر أن يؤسسه بنشاط، أي حول أهداف وغايات وقدرات المجتمع والأفراد أنفسهم، وبهذا المعنى فإنّ أنطولوجيا الخلق لدى كاستورياديس تجعل أخلاقياته وسياساته الاستقلالية ممكنة.

في تطوير مفاهيمه النظرية لم يعمل كاستورياديس أبدًا في فراغ حيث ساهم في العديد من المجموعات الفكرية خلال هذا الوقت، بما في ذلك مدرسة فرويدان بباريس بقيادة جاك لاكان ومجلة (Textures) وهي مجلة الفلسفية في المقام الأول، ومجلة ليبر (Libre) وهي مجلة سياسية في المقام الأول مع كلود ليفورت.

الخلفية الفلسفية بين كاستورياديس وكانط:

وفقًا لكاستورياديس أعاد إيمانويل كانط اكتشاف أهمية الخيال وأعطى الفلسفة وعيًا جديدًا بدورها، وفي نقد العقل الخالص سمح كانط بأنّ الخيال هو القدرة على تقديم شيء حتى بدون وجود هذا الموضوع في الحدس المعقول، وعلى هذا النحو حرر الخيال من الدور التقليدي المتمثل في مجرد اتباع أو مرافقة الحواس في وظيفة لاحقة، وبالنسبة لكانط كان الخيال متورطًا بالفعل في العرض الأولي لكل ما قد يظهر للحواس.

ومثل أرسطو كان كانط شخصية غامضة لكاستورياديس، بينما كان كانط مدركًا لإبداع الخيال ودوره الحيوي في تقديم كل ما يمكن أن يظهر، فقد كان أيضًا سريعًا جدًا في إعادة إخضاع الخيال لمهمة تقديم العروض التقديمية، والتي تظل ضمن الهياكل المسبقة والضرورية والمستقرة (أي المقولات وأشكال الحدس الخالصة) المتأصلة في العقل العارف.

على سبيل المثال بينما سمح كانط للخيال بدور في البناء الرياضي البدهي في الحدس، فقد سمح بأن يعمل بهذه الطريقة فقط في إطار أشكال الحدس المحددة مسبقًا نفسها، أي ضمن الهياكل المحددة مسبقًا لـ المكان والزمان، وباختصار ظل الخيال مرتبطًا بالعمل في مجال محدد مسبقًا في عمل كانط النظري، كما جادل كاستورياديس بأنّ الاتجاه نفسه وجد تعبيرًا عنه في عمل كانط الأخير حول الخيال في نقد الحكم.

مع ذلك اتبع كاستورياديس بطريقة ما وجهة النظر الكانطية القائلة بأنّ علامة (X) غير معروفة، بخلاف الموضوع المعرفي يمكنها تقديم عروض تقديمية خيالية، وفضل كاستورياديس مع ذلك استدعاء مصطلح الفيلسوف الألماني يوهان جوتليب فيشتي (Anstoß) أي صدمة لـ (المواجهة) مع أي نشاط تخيلي مناسب، ومع هذه الصدمة يبدأ الخيال في العمل ويولد عرضًا تقديميًا لنفسه، أي إنّه بذلك يجلب شيئًا (آخر) إلى علاقة مع نفسه مكونًا تقديم الآخر كما هو.

بينما اقترح فيشتي أنّ الخيال يمنح نفسه هذه الصدمة بمعنى ما، ونفى كاستورياديس أنّ مسألة الطابع الداخلي أو الخارجي للصدمة كانت قابلة للحسم، وهكذا أكد أنّ الخيال يشكل إما نفسه أو شيئًا آخر في عرض تقديمي من خلال (الاعتماد على) -مصطلح فرويد هو (anaclasis)- ما يمكن تشكيله في أي شكل.

وهكذا فإنّ شيئًا ما في ما يشكله الخيال يفسح المجال للتشكيل بالخيال، وفي حين أنّه لا يمكن أن يكون هناك تفسير لطبيعة هذه القابلية للتشكيل بدون التكوين الفعلي للخيال لـ (X) القابل للتشكيل، فقد جادل كاستورياديس بأنّ حقيقته لا تثبت أنّه لا يوجد شيء قابل للتشكيل في حد ذاته، أي أنّه لا يوجد شيء على الإطلاق بصرف النظر عن نشاط التخيل.

أخيرًا أخذ كاستورياديس روايته المستوحاة من كانط إلى أبعد من ذلك، وجادل بأنّذ الخيال يمكن في بعض الحالات أن يخلق عرضًا للواقع من خلال البدء دون أي صدمة على الإطلاق، كما يمكن للخيال إنشاء عرض تقديمي أو شكل من أشكال الواقع دون أي صدمة تكييفية، وهكذا في حين أنّ هناك حتمًا بعض الصدمات لأي نفسية فإنّ الصدمة ليست شرطًا ضروريًا لتشغيل الخيال.

جادل كاستورياديس بأنّ كانط قد اعترف ضمنيًا بإبداع الخيال، ومع ذلك حاول كانط جاهدًا ربط الخيال ببنى مستقرة للفكر والحدس، ولكن جهود كانط في هذا الاتجاه أشارت فقط إلى أنّه كان على دراية عميقة بالإبداع الذي ليس بالضرورة مستقرًا أو مرتبطًا بقاعدة عملية مسبقة، ولقد أدرك الخيال الأساسي، ومن ثم فإنّ كانط مثل أرسطو صديق غامض لكاستورياديس.

الخلفية الفلسفية لدى كاستورياديس في ما بعد كانط:

استجابة كاستورياديس لفلسفة كانط على الأقل في جوانبها السلبية لا تختلف تمامًا عن الردود التي قدمها ما بعد كانط مثل المثاليين الألمان ونيتشه وهايدجر، ومع ذلك فإنّه يختلف من حيث أنّه لا ينطوي على الوحدوية ضمنيًا أو صريحًا في المثالية الحديثة (هيجل) والمادية (نيتشه وماركس)، وفي الواقع ربما أكثر من أي مفكر آخر منذ كانط، وفي معارضة الميول الأحادية لمعظم أتباع ما بعد كانط اعتنق كاستورياديس حتمية اللقاء مع (الآخر).

لا يوجد شيء اسمه مادة مفردة موجودة بشكل جذري بمفردها وذلك لأنّ كل مادة تتفاعل مع الآخرين، وبينما تتداخل آراء كاستورياديس أحيانًا مع التقليد الفينومينولوجي بحيث تضعه نظريته عن الإبداع الراديكالي على خلاف مع التقليد الهايدجري، فقد تباعد كاستورياديس أيضًا عن (التحول إلى اللغة) في القرن العشرين في الفلسفة التحليلية (على الرغم من أنّه طور نظرية الدلالة في المؤسسة الخيالية للمجتمع)، وعلى نطاق أوسع وعلى عكس النسبية الثقافية السائدة في غرب القرن العشرين أعرب بدلاً من ذلك عن دعمه المطلق لمشروع الاستقلال الذاتي الأخلاقي والسياسي.

ربما يكون الأمر الأكثر أهمية لفهم الخيال الإبداعي لكاستورياديس -وهو ما يجعل مشروعه فريدًا في الفلسفة المعاصرة- هو أن ّتحليله للإبداع لا يفترض أن يستلزم في حد ذاته ادعاءً معياريًا، كما لا يعطي كاستورياديس قيمة إيجابية للإبداع في حد ذاته، وفي الواقع رفض كاستورياديس صراحة التقييم الإيجابي لـ (الجديد من أجل الجديد).

يؤدي البحث اللامتناهي عن الشيء التالي أو أحدث فكرة في الفكر المعاصر إلى نقص في فهم المعايير المعمول بها بالفعل، وبالتالي إلى إعادة نشر غير واعية لتلك المعايير، ومع ذلك فإنّ الإبداع الراديكالي للخيال يؤدي بطريقة مختلفة إلى اعتبارات نظرية القيمة، وعلى وجه الخصوص إلى نوع من السياسة.

بينما لا يمكن اشتقاق القيمة من الوجود أو الخلق، فإنّ حقيقة أنّ الوجود هو الخلق تؤدي إلى سؤال آخر وهو: ما الذي يجب أن نخلقه (أو نعيد إنشاؤه)، أو نؤسسه (أو نديمه)، أو نضعه لأنفسنا كمشروع؟ كما كيف يمكننا أن نوفر حدودًا ومؤسسات لأنفسنا حتى نتمكن من تحقيق فاعلية والتشكيك في ما نفهمه ليكون جيدًا؟ وعلى هذا النحو يمكن القول بأنّ الخيال الراديكالي لكاستورياديس يمهد الطريق لسياسته وأخلاقه.


شارك المقالة: