يعتبر تفكير بنيامين في (الحديث) أهم مساهماته النظرية في الدراسة التاريخية للأشكال الثقافية، وكثيرًا ما أسيء ترجمتها في طبعات اللغة الإنجليزية المبكرة من كتاباته على أنّها (حداثة)، ولا يزال يُنظر إليها غالبًا على أنّها (حداثة) على الرغم من أنّ بنيامين كان يميل إلى الاحتفاظ بعملة بودلير (la modernité) عند الإشارة إلى ذلك.
بنيامين وفلسفة بودلير:
إنّ مصطلح (Die Moderne) يعين كلًا من الهيكل الزمني الرسمي ومجموعة متنوعة من الأمثلة التاريخية أي الماضي والحاضر، وتشارلز بودلير هو الكاتب الرئيسي الذي من خلاله اعتقد بنيامين بالحداثة، وليس كما هو متوقع بالإشارة إلى التفسير الكنسي للحداثة في (رسام الحياة الحديثة) للأعوام 1859 و1860، ولكن فيما يتعلق بما أسماه بنيامين (نظرية) الحديث الذي تم وضعه أولاً في صالون الحداثة عام 1845، أي ظهور الجديد الحقيقي (die Heraufkunft des wahrhaft Neunen).
في مقال تشارلز بودلير التي حملت عنوان (الرسام)، حيث تشير الحداثة بشكل مشهور إلى الزائل والهارب والوحدة، وإنّه مرتبط بالانتقالية باعتباره تجسيدًا اجتماعيًا معممًا لزمانية الحديث في العاصمة الرأسمالية، على النقيض من الترانزيت على هذا النحو كان بنيامين أولاً وقبل كل شيء (سياسيًا وفلسفيًا) مهتمًا بالجديد في مجيئه أو صيرورته التاريخية، وبجودته كجديد أو حداثة (حداثة الجديد)، وبطريقة كانت متميزة من الناحية المفاهيمية عن التعارض التقليدي بين (الحديث) و(القديم) والذي احتفظ به بودلير بشكل سيء.
نتيجةً لذلك كان بنيامين مهتمًا أيضًا بما قد يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر (الروتينية)، على الرغم من أنّ بنيامين لم يستخدم هذه المفردات، بمعنى الروتين المصاحب لتعميم الجديد كنمط من الخبرة -في الموضة و الملل على وجه الخصوص- والبنية الرسمية للتماثل المتضمنة في تكراره، وهنا يدخل الترانزيت في الصورة نتيجة تعميم الحداثة، فقد اعتنق بودلير الحداثة بوعي ذاتي بجهد بطولي، محاولًا مثل رسام الحياة الحديثة واستخراج جوانبها الملحمية واستخلاص الأبدية من المرحلة الانتقالية.
من ناحية أخرى سعى بنيامين إلى فهمها من أجل إيجاد طريقة للخروج مما أسماه (الجحيم)، ولقد التقط العلاقة بين الانتقال إلى الأبدية في تفسير بودلير للحداثة، لكنه أولاً قام بإلغاء الكلاسيكية لمفهوم (الأبدي) وأعاد تشكيله فلسفيًا، وثانيًا جعل العلاقة نفسها جدلية تمامًا أي في الحديث وإنّه الخلود نفسه.
فلسفة بنيامين في تطوير مفهوم الحداثة:
وهكذا لم يتولى بنيامين الأمر كثيرًا وقام بتحديث تصوير بودلير للحداثة كما قرأها عرضيًا (بمعنى لويس ألتوسير)، أو بشكل أكثر دقة مجازيًا من أجل الكشف تحتها عن تجربة تحول الزمن التاريخي بواسطة شكل سلعة، وكان بودلير قادرًا على استيعاب هذه التجربة، ووفقًا لبنيامين من خلال الزمانية التاريخية المتناقضة التي شيدت عمله، أي في الوقت نفسه حديث بشكل حازم، ولكن في شكله الشعري (غنائي) الذي عفا عليه الزمن بالفعل.
كما قدّر بنيامين بالمثل الزمانية التاريخية المنفصلة لأساطير كافكا بوضعها كأمثال بعد نهاية رواية القصص، ولكن بينما كان كافكا بالنسبة لبنيامين شخصية الفشل -الفشل الحتمي لمحاولة ترجمة تجربة (Erlebnis) للحداثة إلى لغة التقليد (اليهودية)- حيث كان شعر بودلير قادرًا على نقل شدة تجربة الحداثة من خلال التوتر ذاته بين تلك التجربة والوسائل الغنائية المختارة، وليس فقط بشكل سلبي (مثل كافكا) ولكن من خلال الطريقة التي غيرت بها الحداثة تلك الوسائل.
على وجه الخصوص سمحت القصائد الغنائية لبودلير بتسجيل التأثير الكامل لزمنية الحديث على تفكك الذاتية، وحقيقة أنّه بناءً على ذلك يتطلب دستورًا بطوليًا ليعيش الحديث (يموت حديثًا)، فاستخلاص الزخارف الحضرية التي اشتهرت من خلالها قراءة بنيامين لبودلير -البوهيمي والفلانور والمومس والمقامر وراجبيكر- هي الأشكال التي تظهر من خلالها بنية التجربة هذه.
وفي حين أنّ الابتدائية داخل بودلير ومع ذلك فهي ثانوية منهجيًا بالنسبة لبنيامين فكما أوضح لأدورنو: “لا بد لي من إدخالها في المكان المناسب”، فقد وجد بودلير طريقة ما أسماها (مراسلات) والتي تدمج بشكل انعكاسي مفارقة التاريخ من الشكل الغنائي في عمله، وقد خصص بنيامين هذه الطريقة مع عناصرها الطقسية المنفصلة لقراءة بودلير نفسه، ففي مقال (بعض الزخارف في بودلير) (Some Motifs in Baudelaire) مراسلات الهيكل الزمني، التي تم اختبارها على أنّها صدمة وتربط الآلة والفيلم والجمهور ولعبة الحظ.
تم الكشف عن هيكل زمني رسمي واحد متكرر ومنفصل أسفل مجموعة غنية من الأشكال الظاهراتية المقدمة في شعر بودلير: “الثمن الذي يمكن أن يكون للإحساس الحديث به: تفكك الهالة في تجربة الصدمة”.
علاوة على ذلك هذا المفتاح التفسيري من تجربة الصدمة يُفهم بحد ذاته من خلال سلسلة من التطابقات النظرية داخل حاضر بنيامين نفسه، ففي المقام الأول ذلك بين (الذاكرة اللاإرادية) لبروست ونظرية فرويد للوعي، حيث تتم قراءة هذه المراسلات النظرية في ضوء (صدمة القذيفة) التي تم تشخيصها لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، والتي كتب عنها بنيامين سابقًا في تأملاته حول إرنست يونغر في مقالته الاستعراضية عام 1930 وهي (نظريات الفاشية الألمانية).
لا يظهر ارتباط الحديث بالفاشية فقط من خلال موضوع الاستعادة الزائفة للهالة ولكن أيضًا في عملية تفككها بالصدمة، ومن الناحية الهيكلية فإنّ صدمة الحشد هي مثل صدمة القذيفة،، وبالتالي فإنّ بودلير ليس مجرد كاتب متميز لظهور نظرية الحديث، بل هو الكاتب الذي يظهر القرن التاسع عشر في أعماله بشكل أوضح على أنّه مقدمة الحياة للحاضر.
ومع ذلك إذا كان من خلال بودلير هو الذي أدرك بنيامين هيكل الزمنية (الحديث)، فمن خلال نيتشه وبلانكي اكتشف معناها التاريخي الغامض، ومن خلال الطريقة التي تعكس بها فلسفاتهم تحول الجديد بواسطة سلعة في (نفسه من أي وقت مضى)، وتمامًا كما في القرن السابع عشر أصبحت القصة الرمزية أساسًا للصور الديالكتيكية وفي القرن التاسع عشر كانت الجدة.
إن الجزء (سنترال بارك) هو الذي يكشف بوضوح أكبر عن عواقب قراءة بنيامين لبودلير على مفهومه للتاريخ حيث يغير الحديث تمامًا إمكانيات تجربة التاريخ، فمن ناحية يزيل التاريخ عن التجربة وينزعها من الاستمرارية الزمنية للتقاليد.
من ناحية أخرى فإنّ البنية المسيانية -انفتاح التاريخ على شيء خارج الزمن- تعيد تأكيد نفسها داخل الحياة الساكنة (الطبيعة الهائلة) للتشابه المضطرب للحداثة، وهذا هو ديالكتيك بنيامين المشهور، حيث إنّه يحول الطبيعة التاريخية للباروك التي تم تحليلها في أصل مسرحية الحداد الألمانية في اتجاه مستقبلي، على وجه الخصوص فإنّه ينطوي على إعطاء الأولوية للركود المتقطع للصورة على استمرارية الخلافة الزمنية، وفي الواقع أكد بنيامين: “يشكل مفهوم الزمن التاريخي نقيضًا لفكرة السلسلة الزمنية”.