اقرأ في هذا المقال
تُعتبر القصة القصيرة من الفنون النثريّة الحديثة، والتي من أبرز سماتها الفنيّة تعبيرها عن لحظات معينة، وتركيزها على قضية ما أو واقعة معيّنة، وتجعلها محور الاهتمام بشكل كثيف وفنيّ، وهنا تقع الفائدة والمتعة للقارئ؛ ويقوم الكاتب باستخدام تقنيات أدبية في قصته؛ وذلك كي تبدو بأسلوب فنيّ، إذ يسعى الكاتب إلى نقل خبراته وتجاربه للقارئ، ومن أهم كتّاب القصة القصيرة العرب في عصرنا هذا: زكريا تامر، محمود تيمور، غسّان كنفاني، وغيرهم.
من هو جبران خليل جبران؟
جبران خليل جبران أديب عربيّ من لبنان، هاجر في شبابه إلى أمريكا؛ لدراسة الأدب، أمّا مشواره في الأدب فقد بدأه مبكّرًا وأصبح أديبًا مشهورًا، وقد أتقن اللغة الإنجليزية بالإضافة إلى لغته الأمّ، ولعلّ الأسلوب الرومانسيّ كان أهم ما يميّز أدب جبران، ولا ننسى أنّ جبران كان مكن أدباء أدباء المهجر الشمالي، كما أنّه كان عضوًا من أعضاء الرّابطة القلميّة مع كوكبة من الأدباء من أمثال: “نسيب عريضة”، و”ميخائيل نعيمة” و”إيليا أبو ماضي”، ولم يقتصر أدب جبران على النّثر، بل إنّه كان شاعرًا كذلك، ومن أكثر مؤلفاته شهرة، كتاب “النّبي” والذي لقي صدىً واسعًا، الأمر الذي جعل جبران أحد أهمّ مؤلّفي الأدب في هذا العصر، ومن أهمّ ما ألّف جبران: الأجنحة المتكسرة، الأرواح المتمردة وغيرها، توفّي جبران في غربته سنة 1931، ووُوري جثمانه في لبنان.
قصّة الشيطان_ العواصف :
الشّيطان هو عنوان لواحدة من قصص جبران، ضمّتها صفحات مجموعته القصصية: “العواصف”، كان محور اهتمام جبران في قصته هذه مُنصبًّا على الجوانب الرّوحانيّة، ذلك أنّها تشغل حيّزًا لا بأس به من تفكير الناس رغم اختلاف دينهم، والتي ينتج عنها اختلافات على مستوى التصوّر لهذا الكائن الذي ينتمي لعالم الغيب، وهو: “الشيطان”، والشّيطان يتميّز بسطوته الكبيرة على البشر وجبروته، وبشكل خاصّ عند عموم المسلمين، والذين يتّصفون بالنّظرة الرّجعيّة برؤيتهم للقضايا من حولهم، وخاصة تلك التي تخصّ العقيدة، وبشكل أدقّ ذلك المتعلّق بالغيبيّات، فالمصائب أيًّا كانت، والأمراض إذا ما صعب تشخيصها وعلاجها، أو إذا ما وُجد ما يحول بين الإنسان ورزقه، فالمسؤول المباشر والمتسبب بكلّ ما سبق هو الشّيطان الرّجيم، وكأنّ البشر في دنياهم لا مسؤولية لهم مطلقًا عن تصرفاتهم.
المغزى في قصّة الشيطان:
أراد جبران في قصّة الشّيطان أن يكشف بلغة سلسة بسيطة أنّ الشيطان والكهّان في ماهيتهما وجهان لذات العملة، وأمّا العداوة البارزة بينهما ما هي إلّا طريقة لديمومة بقائهما، واستمرار استغلال النّاس البسطاء، وكلّ ذلك باسم الدّين، فالكاهن سمعان في القصة ما هو إلّا رمز يمثّل بين طيّاته كلّ أولئك الذين يتّجرون بالدّين، ويشترون بآيات الله ثمنًا بخسًا، كي يقضوا حاجات لهم دنيويّة؛ ويقوم بعض رجال الدّين كما يرى جبران بتضخيم عمل الشيطان، كما إنّهم يروّجون لخطورته وقدرته الفائقة، وهم يقومون بذلك كي يفرضوا سلطتهم على البشر ويبقوا عليهم تحت سيطرتهم، ويستمرّون بابتزازهم وفق ما يشاء هواهم، بعد إيهامهم بقدرتهم على تخليصهم من وساوسه وشباكه و حبائله، ونجد وصف جبران غاية في الدّقة للكهنة أو المشعوذين، والذين يزعمون تفردهم بالعلم اللاديني، ومعرفتهم العميقة بطبيعة الشّيطان الشّريرة، فهو يصوّرهم يقومون بكتابة الطلاسم على التمائم، ذلك أنّهم يدّعون أنّها تحفظ البشر من شرور الشّيطان، وتبطل مكائده، ورجال الدّين المتاجرين بالبشر يزعمون كذلك أنّهم قادرين على علاج أجساد الممسوسين.
وفق قصّة “الشيطان” ومن منظور جبران، لا يجد أولئك الذين يتاجرون باسم الدّين من شتّى الديانات بدًّا إلّا أن يتشبّثوا بهذه الاعتقادات عن الشّيطان هذا الكائن الغيبيّ العجيب، فهؤلاء لا مصلحة لهم أن يأتي يوم يُعلن فيه القضاء التّامّ عليه، أو أن يُمحى أثره، ذلك أنّه لو سُلّم بأنّ كلّ الذي يمسّ البشر هو جرّاء ما تكسبه أيديهم، وأن الذي يصيب صحته ما هو إلّا بسبب داء ما، فما الفائدة من أن يوجد الرهبان والمشعوذين ورجال الدّين المزيفين، ويطرح جبران العديد من التّساؤلات، ويقول: هل البشر من السّذاجة ليقوموا بإطلاق رصاصة الرّحمة بأيديهم على أرجلهم؟ فوجود أحدهما مرهون بوجود الآخر، وقصة جبران ألّبت صدور الكثيرين عليه، فقاموا بتكفيره وروّجوا بين العامّة ألّا يقرؤوا كتبه، وذهب آخرون إلى أنّ مؤلفاته يجب أن تُحرق جملة وتفصيلًا.
أسلوب جبران في قصة الشيطان
تميّز أسلوب جبران في قصته هذه بالسّلاسة والانسيابية، فالحوار الفلسفي الذي جرى بين الكاهن والشّيطان، يضطر الكاهن في خاتمة المطاف إلى إنقاذ الشّيطان بما أنّه وليّ نعمته، فلولا الثّاني لما كانت الكهانة من الأساس، وبسببه لما ظلّ البشر في حاجة إلى أن يلجؤوا إلى رجال الدّين للتّطهر من الذّنوب، والتخلص من حبائل الشّيطان وحيله.