كان فرانسيس هربرت برادلي (1846-1924) أحد أبرز المثاليين البريطانيين في مطلع القرن، وكان يُنظر إليه على نطاق واسع في ذلك الوقت على أنّه أهم فيلسوف بريطاني في جيله، وكان له تأثير مباشر ومهم على برتراند راسل وجورج إدورد مور، وبعض مقالاتهم هي عبارة عن ردود فعل على آراء وحجج برادلي.
مثالية برادلي:
تظهر مثالية برادلي في ادعائه أنّ “التجربة الواعية باختصار هي حقيقة وما هو غير ذلك ليس حقيقيًا”، من الصعب بعض الشيء أن نرى كيف يرتبط هذا الادعاء بآراء برادلي حول العلاقات، ولكن حتى هنا ربما يمكننا أن نرى صلتين وهما:
1- من الصعب إنكار وجود شيء اسمه التجربة الواعية: فوجهة النظر العادية هي أنّه بالإضافة إلى التجربة الواعية هناك عالم من الأشياء غير الحسية التي تجاربنا هي تجارب لها، ولكن إذا كان هذا صحيحًا فسيكون هناك نوعان مختلفان تمامًا من الأشياء وهما الإحساس وغير الواعي، ولكن هذا يتعارض مع أحادية برادلي.
2- نعلم من أحادية برادلي أنّه مهما كان ما سيكون المطلق: فمن الأفضل أن تكون الوحدة لكن هذا يفرض قيدًا كبيرًا على نوع الشيء الذي يمكن أن يكون المطلق، وفي الواقع يبدو واضحًا أنّه لا يمكن حقًا أن يكون شيئًا بالمعنى العادي على الإطلاق لأنّ الأشياء عادة ما تكون لها خصائص تختلف عنها.
ويبدو أنّ بعض المقاطع الصوفية في برادلي تشير إلى وجود نوع معين من الوحدة أو الفورية، ففي التجربة لا توجد في أي مكان آخر، وربما كان هذا هو ما جعل من الطبيعي بالنسبة له بمجرد أن يتبنى الأحادية، والتعرف على المطلق بنسخة أعلى من تجربتنا الواعية.
فلسفة برادلي في تفسير مفهوم المطلق:
ومع ذلك فمن الممكن إعطاء مخطط تفصيلي، وإنّ الانطباع عن الواقع الذي يتكون من تعدد الأشياء ذات الصلة هو نتيجة للانفصال الذي يفرضه الفكر، وفي الحقيقة “المطلق ليس كثير، ولا توجد حقائق مستقلة”، والحقيقة أو الواقع واحدة، ولكن ماذا؟ يقول إن التجربة بالمعنى الواسع للمصطلح: “الشعور والفكر والإرادة (أي مجموعات نصنف تحتها الظواهر النفسية) كلها مادة الوجود، ولا توجد مادة أخرى فعلية أو حتى ممكنة.”
إنّ الحجة الفورية التي يقدمها لهذه العقيدة غير البديهية موجزة لدرجة الارتجال، فمجرد تحدي للقارئ ليفكر بطريقة أخرى دون تناقض ذاتي، بحيث اهتمامه الأكبر هو توضيح أنّ هذه التجربة لا تنتمي إلى أي عقل فردي، وأنّ عقيدته ليست شكلاً من أشكال الانغماس، ولكنه ليس مرتجلًا تمامًا كما يبدو لأنّه سرعان ما أوضح أنّه يعتقد أنّ الكتاب بأكمله هو أفضل حجة لتفسير هذه المثالية الموضوعية (أو المطلقة).
لذا فإنّ: “المطلق هو نظام واحد ومحتوياته ليست سوى تجربة واعية، ومن ثم ستكون تجربة واحدة وشاملة والتي تحتضن كل تنوع جزئي في انسجام، ولأنه لا يمكن أن يكون أقل من المظهر وبالتالي لا يمكن لأي شعور أو فكر من أي نوع أن يقع خارج حدوده”.
ولكن كيف يمكننا أن نفهم أنّ هذا التنوع ممكن، في حين أنّه لا يمكن تفسيره من خلال المصطلحات والعلاقات؟ إجابة برادلي هي أننا لا نستطيع فهم هذا بالتفصيل ولكن يمكننا فهم ما يقصده من خلال النظر في حالة ما قبل المفاهيم للتجربة المباشرة التي توجد فيها اختلافات ولكن لا يوجد فصل، وهي الحالة التي ينطلق منها الإنسان المألوف والمعرفي والبالغ.
ينشأ الوعي من خلال فرض الفروق المفاهيمية على الاختلافات، بحيث يشبه الواقع هذه الحالة البدائية ولكنه ليس كذلك تمامًا لأنّه يتجاوز الفكر وليس يقصر عنه، وكل شيء حتى الفكر النظري نفسه مدرج في كل واحد شامل ومتناغم، وهكذا تساهم المظاهر في الواقع بطريقة مشابهة للطرق التي تساهم بها أجزاء اللوحة في العمل الفني بأكمله، وإذا انفصلت عن خلفيتها فإنّها تفقد أهميتها وقد تكون قبيحة في عزلة، وفي السياق يمكنهم أن يكونوا جميلين وأن يقدموا مساهمة أساسية في جمال وسلامة الكل.
مثل هذه المقارنات المحدودة هي كل المساعدة التي يمكننا الحصول عليها في فهم المطلق وعلاقته بمظاهره، بحيث يرفض برادلي طلب تفسيرات تفصيلية لكيفية انتماء الظواهر مثل الخطأ والشر إلى المطلق وبدلًا من ذلك يحاول تغيير عبء الإثبات.
للنقاد الذين يعربون عن ثقتهم في عدم توافقهم كان جوابه العام هو أنّ أي شيء موجود حتى أسوأ الشرور هو شيء حقيقي على المطلق، وأن يفهم الشر والخير معًا، ولكن تمامًا كما تعترف الحقيقة بالدرجات يكون الحكم أقل صدقًا كلما ابتعد عن فهم الواقع بأكمله، لذلك (بما يتفق مع هوية معرفة الحقيقة والواقع) يعترف الواقع نفسه بالدرجات، وهي ظاهرة أقل حقيقي كلما كان مجرد جانب مجزأ من الكل.
والمطلق بعيد عن الشر أكثر منه عن الخير ولكنه في حد ذاته ليس كذلك، حيث يتجاوز كليهما لأنّه يتجاوز حتى الدين، حيث إنّه بمعنى ما كائن أسمى لكنه ليس إلهًا شخصيًا، ويجب أن يكون الهدف الصحيح لنظام كامل من الميتافيزيقا هو الحكم على الدرجة النسبية للواقع لأي وجود مجزأ، ولكن كما اعترض بعض النقاد من الصعب رؤية كيف يمكن تنفيذ ذلك حتى من حيث المبدأ، نظرًا لادعاء برادلي بأنّ المطلق بالمعنى الدقيق للكلمة غير معروف.
فلسفة برادلي الأحادية:
كما يكرس برادلي بعض الوقت للنظر في القضايا التي تنشأ في فلسفة الطبيعة، على الرغم من أنّه من الواضح أنّه يشعر بجاذبية الروحانية الشاملة إلّا أنّه لم يؤيد هذه الرؤية صراحة أبدًا، كما اعترف توماس ستيرنز إليوت إنّ خصلة ليبنيزية تتخلل فلسفة برادلي وهي فكرة تجد تعبيرًا عنها في مذهبه عن مراكز الخبرة المحدودة، فوفقًا لوجهة النظر هذه يعبّر المطلق عن نفسه في تعددية من مجموعة واعية، من أفرادًا عقلانيون موحدون لطبيعة النفس البشرية.
وهكذا يقترب برادلي من الاحتفاظ بشيء يشبه إلى حد بعيد نظرية الموناد (“الأحادية” وحدة واحدة رقم واحد)، ومع ذلك يتم دمج هذا في الإطار العام لميتافيزيقيته الأحادية، ومن المثير للاهتمام أنّ عقيدة المطلق يمكن اعتبارها حلاً لمشكلة التفاعل الأحادي.
مثل موناد ليبنيز فإنّ مراكز برادلي المحدودة غير قادرة على المشاركة المباشرة للمحتوى (على سبيل المثال يقال إنّها: “ليست مباشرة مع بعضها البعض”) والتفاعل السببي، ومع ذلك فهي منسقة مع بعضها البعض من حيث أنّها كلها مظاهر جزئية لنفس الواقع الشامل، وقد قام لوتزي (Lotze) بمحاولة مماثلة للتوفيق بين المثالية المطلقة والوحدة الأحادية، وفي كلتا الحالتين يظل السؤال مفتوحًا ما إذا كان هذا الانسجام المقنع محددًا مسبقًا.
ما هو واضح ولكن يتم تجاهله عادةً هو أنّ برادلي نفسه رأى أنّ أحادية ليبنيزيان (Leibnizian) هي التحدي الأكبر لعلامته التجارية المثالية الا وهي الوحدانية (Monadism)، وكما يقول: “بشكل عام ستزداد وستضيف إلى الصعوبات الموجودة بالفعل”، ولقد كان بالتأكيد محقًا في هذا فكما فعل علماء الميتافيزيقيا البريطانيون لاحقًا مثل جيمس وارد وجون ماك تاغارت إليس ماك تاغارت وهربرت ويلدون كار وألفريد نورث وايتهيد، حيث فضلوا ليبنيز على كانط وهيجل كمصدر رئيسي للإلهام.
وعند وصف الميتافيزيقيا الخاصة ببرادلي بأنّها “مزيج مذهل من العقلاني والصوفي”، فهذه الخصوصية من المزيج تعني أنّ القليل من الفلاسفة اللاحقين قد اقتنعوا به، ومع ذلك في مواجهتها الجريئة والمباشرة لما أسماه: “المشكلة الكبرى للعلاقة بين الفكر والواقع” فإنّها تقف في الفلسفة الغربية كتحدي دائم ومزعج لقدرة الفكر الخطابي على عرض العالم دون تشويه، وهو يشكل قلقًا لأنّه ينشأ ليس من فرض معيار خارجي يمكن رفضه باعتباره تعسفيًا أو غير مناسب، ولكن من المطالبة بأن تفي آليات التمثيل لدي العالم بالمعايير التي وضعها هي نفسها ضمنيًا.