الفلسفة الأمريكية لدى تشارلز بيرس ووليام جيمس

اقرأ في هذا المقال


تعود جذور الفلسفة الأمريكية إلى التجربة التي كانت مطلوبة من قبل الأشخاص الذين واجهوا مهمة التصالح مع شكوك بيئة جديدة جذريًا.

الفيلسوف تشارلز بيرس:

من المعروف عمومًا أنّ البراغماتيين الكلاسيكيين الثلاثة الكبار هم تشارلز بيرس وويليام جيمس وجون ديوي، فلم يكتف بيرس وهو متعدد الثقافات بكل المقاييس، بصياغة مصطلح البراغماتية في سبعينيات القرن التاسع عشر فحسب بل قام بعمل رائد في علم السيميائية (دراسة العلامات) وكذلك في المنطق ولا سيما في منطق العلاقات.

بالإضافة إلى ذلك بينما كان عالماً وعالم رياضيات عن طريق التجارة فقد كتب قدرًا كبيرًا من فلسفة العلم (على سبيل المثال حول طبيعة التفسير) ونظرية القيمة والميتافيزيقا بما في ذلك العمل الأساسي على الفئات، ومن كتاباته المبكرة في ستينيات القرن 19، والتي انتقد فيها الشك الديكارتية والبحث التأسيسي عن عدم الشك، إلى أعماله اللاحقة حول الإدراك وما أسماه (علم الكونيات التطوري).

جادل بيرس باستمرار وبثبات ضد أشكال الاسمية لصالح الواقعية، سواء من حيث أنّ العناصر غير الخاصة حقيقية على الرغم من عدم وجودها وبمعنى أنّ تصوراتنا عن أشياء مستقلة عنا، ومن السمات المهمة لبراغماتية بيرس الرفض الشديد للذاتية، ويأتي هذا من خلال إصراره على أنّه بما أنّ المستفسرين لا يوجدون في عزلة فإنّ المعتقدات لا تتحقق، وعلى حد تعبيره لا يتم التغلب على غضب الشك في عزلة.

بدلاً من ذلك فإنّ تطوير العادة الناجحة هو المهم وحكم مجتمع المستفسرين على المدى الطويل هو المهم في تحديد ما يحسم التحقيق، تمامًا كما أنّ هذه ليست وجهة نظر ذاتية لما هو حقيقي أو صحيح، فهي أيضًا ليست وجهة نظر بنائية اجتماعية حيث يتم تحديد ما هو حقيقي أو صحيح من خلال ما يقرره المجتمع.

بدلاً من ذلك كما في نموذج العلم الجيد هناك مجتمع من المستفسرين الذين يشكلون نظامًا من الضوابط والتوازنات لأي معتقد، ولكن مجتمع المستفسرين هذا يعمل في عالم من الأشياء والصفات والعلاقات والقوانين.

لتأسيس فكرته عن البراغماتية كوسيلة لتوضيح وتحديد معنى العلامات صاغ بيرس مقولاته البراغماتية، ولا يشير هذا المبدأ إلى البراغماتية كمعيار للمعنى فحسب بل يشير أيضًا إلى البراغماتية كمعيار للحقيقة، وبالنسبة لبيرس فإنّ الإيمان ليس مجرد حالة معرفية لعامل منعزل، بل يشمل وعيًا بحالة الأمور جنبًا إلى جنب مع تهدئة إثارة الشك (أو المفاجأة) -وكإيمان حقيقي وليس مجرد كلام- المؤسسة عادة أو قاعدة عمل.

هذا المطلب الخاص بقاعدة العمل ينقل بالنسبة لبيرس إلى ما وراء الاهتمامات المعرفية إلى ما وراء الطبيعة أيضًا، لا سيما في عمله على الفئات أو الأنماط الأساسية للوجود، وباستخدام مصطلحات متنوعة في أوقات مختلفة حدد بيرس ثلاث فئات أساسية للوجود:

1- كانت إحدى الفئات هي الجودة (أو الأولى): هذا هو مفهوم الاستقلال عن أي شيء آخر مثل مثال على نغمة أو لون نقي.

2- الفئة الثانية هي فئة الحقيقة الغاشمة (أو الثانية) والتي تتعلق بشيء آخر أو متصل به، قد يكون هذا مثالًا معينًا على نغمة أو عينة لون، وهذا ما أسماه أحيانًا التطبيق التوضيحي للإشارة.

3- هناك قانون أو العادة (أو الثالثة) أو وساطة حيث يتم ربط الأول والثاني، وهذا هو مفهوم الانتظام والتمثيل، وعلى هذا النحو ينطوي على جانب تنظيمي وكذلك وصفي، مثال على ذلك هو الضوء الأحمر الذي يشير إلى الحاجة إلى التوقف أو ربما يشير إلى الخطر.

لا يمكن اختزال القانون والعادة والانتظام في الحالات الخاصة التي تنطبق عليها (أي الثانية) ولا إلى الجودة المادية الخالصة لما يتم تمثيله في تلك التفاصيل (أي الأولوية)، وبالنسبة لبيرس هذه الفئات الثلاث كلها حقيقية، وكلها غير قابلة للاختزال بالنسبة للفئات الأخرى وجميعها متورطة في أي شكل أو فعل من أشكال الاستفسار، على وجه الخصوص كان إصراره على حقيقة العادة أو القانون أمرًا أساسيًا لدعوته إلى مفهوم براغماتي للتحقيق.

الفيلسوف وليام جيمس:

قام ويليام جيمس المعروف خلال حياته بعمله في علم النفس بقدر ما اشتهر بعمله في الفلسفة، بأكثر من بيرس لنشر تسمية ومفهوم البراغماتية كطريقة فلسفية لحل النزاعات وكنظرية للمعنى حقيقة، على الرغم من أنّ جيمس نفسه جادل أيضًا ضد الذاتية ولأهمية الحقائق القديمة (أي الحقائق الثابتة)، فقد أدت كتاباته بالعديد من الآخرين (بما في ذلك بيرس) إلى رؤية موقفه على أنّه أكثر نسبيًا وميولًا إلى النزعة الاسمية.

شدد جيمس على الآثار العملية للاعتقاد والتأكيد مدعيًا أنّ الحقيقة هي نوع من الخير، فما هو جيد لنا في النهاية يجب أن نؤمن به، وكان الكثير من أعمال جيمس الفلسفية يهدف إلى حل العديد من الألغاز الفلسفية التقليدية من خلال إظهار أنّها لم تحدث أي فرق عملي في حياتنا أو أنّها استندت إلى افتراضات خاطئة وغير مثمرة، على سبيل المثال أدى الاهتمام الميتافيزيقي التقليدي بطبيعة الجوهر كفئة من الأشياء الأساسية والقابلة للفصل عن السمات، إلى قيام الفلاسفة منذ زمن أفلاطون بالجدل ذهابًا وإيابًا دون أي حل واضح.

بالنسبة لجيمس فإنّ الأهمية الوحيدة لمثل هذه المسألة هي التأثير المحتمل على تجربتنا اللاحقة نظرًا لاعتماد موقف ما فيما يتعلق بهذه المسألة، وبالمثل فإنّ أي موقف بشأن وجود الله على سبيل المثال لن يكون مهمًا إلّا إذا كان تبني اعتقاد (مع أو ضد هذا الوجود) سيشكل تجربتنا المستقبلية للأفضل، ونظرًا لأنّ المعتقدات هي أدوات للتأقلم مع العالم فإنّ تلك المعتقدات الجيدة بالنسبة لنا، وتلك التي تساعدنا بالفعل على التأقلم هي المعتقدات الصحيحة.

بالطبع قد تكون قيمة بعض المعتقدات الطيبة ولكن التكيف معها ضئيلة، فليس الهدف من جيمس هو مستوى أو قوة الخير بل المعيار المناسب للحقيقة والأهمية، وفي حين أنّ جيمس إذن غالبًا ما كان يركز على محاولة حل الألغاز الفلسفية القديمة، فقد قدم أيضًا مواقف موضوعية حول العديد من القضايا، ولقد جادل فيما يسمى الآن بوجهة نظر توافقية للإرادة الحرة (أنّ حرية الإنسان متوافقة مع بعض أشكال الحتمية) وكذلك ضد وجهة نظر ثنائية للعقل.

وفيما يتعلق ببعض القضايا الفلسفية التقليدية مثلًا الحرية مقابل الحتمية، دافع عن موقف معين لأنّه رأى عواقب جيدة أو سيئة يمكن التنبؤ بها، وفيما يتعلق بالحتمية مثلًا جادل بأنّ الإيمان بالحتمية يؤدي إلى الشعور بالقدر والاستسلام للوضع الراهن، ومن ثم فهي ليست أفضل بالنسبة لنا.

في الميتافيزيقيا لا يزال معروفًا برؤيته حول التجريبية الراديكالية، والتي جادل فيها بأنّ العلاقات بين الأشياء حقيقية مثل خصائص الأشياء، وادعى أنّ هذا الرأي يتألف من مخطط لفرضية وبيان للوقائع واستنتاج عام، والفرضية هي أنّ الأشياء الوحيدة التي يجب أن تكون قابلة للنقاش بين الفلاسفة هي الأشياء التي يمكن تحديدها بمصطلحات مستمدة من التجربة، وبيان الحقيقة هو أنّ العلاقات بين الأشياء هي مجرد مسائل تتعلق بتجربة خاصة مباشرة مثل الأشياء نفسها أو خصائصها.

فالاستنتاج المعمم هو أنّ أجزاء التجربة تتماسك من التالي إلى التالي من خلال العلاقات التي هي نفسها أجزاء من التجربة، على حد تعبير جيمس: “يحتاج الكون المدرك بشكل مباشر باختصار إلى عدم وجود دعم ضام خارجي تجريبي، ولكنه يمتلك في حد ذاته بنية متسلسلة أو مستمرة”.

التزام ميتافيزيقي آخر لجيمس هو التزام التعددية أي أنّه لا يوجد وصف واحد صحيح للعالم، ومن خلال وجهة نظره العواقبية والبراغماتية الموجهة نحو المستقبل والتي تركز على الاحتمالات الفعالة، جادل جيمس بأنّه يمكن أن تكون هناك حسابات متعددة مضمونة أو حقيقية، ولا يمكن أن يكون هناك حسابات جيدة مختلفة فحسب بل حسابات مختلفة صحيحة.

في ظل هذا الرأي يرفض جيمس وجهة نظر مطابقة مباشرة للحقيقة وما يسميه (نظرية النسخ)، حيث تكون الحقيقة مجرد علاقة بين اعتقاد وحالة، وبدلاً من ذلك تتضمن الحقيقة كلاً من الاعتقاد والحقائق حول العالم، ولكن أيضًا المعتقدات الخلفية الأخرى بل والعواقب المستقبلية، وبالنسبة لجيمس فإنّ التمييز ذاته بين الرواية الجيدة والتفسير الصحيح ليس انقسامًا حادًا، وهذا لا يعني أنّ أي حساب جيد مثل أي حساب آخر فمن الواضح أنّ هذا خطأ.

بدلاً من ذلك يمكن أن تكون هناك حسابات مختلفة لا تفهم المعرفة والخبرة الحالية والماضية فحسب، بل تؤدي إلى تجارب مستقبلية مفيدة، وما الذي سيحدد حقيقة أو ضمان حساب ما ستكون عواقبه، على سبيل المثال هل التنبؤات المستندة إلى ذلك مثبتة في التجربة؟ وهل تعزز الازدهار الجسدي والروحي؟ وهل تنجو من التدقيق الداخلي؟


شارك المقالة: