الفلسفة المعرفية لدى أندرسون

اقرأ في هذا المقال


في تاريخ المعرفة والمنطق في أستراليا تعهد الفيلسوف الأسترالي دوغلاس جاسكينج الذي ولد في عام 1911 وتوفي في عام 1994 بترجمة المصطلحات المنطقية للفيلسوف الأسترالي جون أندرسون إلى المصطلحات المنطقية لودفيج فيتجنشتاين (Tractatus)، وفي ذلك الوقت أوصى جيلبرت رايل الذي ولد في عام 1900 وتوفي في عام 1976) ومؤخرًا ديفيد أرمسترونج الطلاب بالوصول إلى النتيجة.

نظرية المعرفة:

الفائدة التاريخية للنقاش الذي بدأه جاسكينج هو أنّه أسفر بشكل مدهش عن القليل من المعلومات حول منطق أندرسون التقليدي (القياس أو الأرسطي) وعلاقته بالمنطق الكلاسيكي (المسند من الدرجة الأولى أو الروسي) والموضوع الظاهري، ولكن المواد موجودة الآن لتفسير منطق أندرسون في المنطق الكلاسيكي ربما كجبر للفئات، وقد يكون هذا قليل الأهمية للمنطقين المعاصرين ولكنه قد يلقي بعض الضوء على فلسفة أندرسون.

ولكن اليونانيون وفقًا للفيلسوف جون أندرسون أكثر وضوحًا بكثير في العديد من الأسئلة من الفلاسفة المعاصرين، حيث إنّهم يتجنبون العديد من الأخطاء الحديثة وخاصة ليسوا مثل الحديثين المهووسين بـ (مشكلة المعرفة)، فهم لا يشرعون في الاكتشاف (أي أن يعرفوا!) كيف أو إلى أي مدى يمكننا أن نعرف قبل أن يكونوا مستعدين لمعرفة أي شيء، وهذا النقد للأداة يرقى إلى الانهزامية العلمية، وقد حالت النظرة الأداتية للعقل دون معرفة العقول نفسها، وأعاقت البحث المباشر في المشكلات المنطقية والعلمية الأخرى.

من المرجح أن تحظى تشخيصات أندرسون الهيجلية لهواجس الفلسفة الحديثة والديكارتيّة بنظرية المعرفة باعتراف وتقدير العديد من القراء المعاصرين، فمثلت الديكارتيكية في الفلسفة الحديثة بالنسبة لأندرسون حركة مناهضة للكلاسيكية: أي كراهية للتاريخ والتقاليد، وبحثت الفلسفة الحديثة في العقلانية المجردة كأساس للمعرفة البشرية وليس في ثقافة ملموسة ومتعددة الجوانب، وتميّز العصر الحديث بأكمله بهذا النقص في الواقعية.

يبرز هيجل في هذا الصدد كشخصية كلاسيكية وحيدة في تاريخ الفلسفة الحديثة، كما أصبحت الفلسفة منذ أن أصيب الفيلسوف رينيه ديكارت بالعملية والتقدمية والمنطق إلى حالة الأداة وهي طريقة معممة لاكتساب معرفة جديدة، وكذلك إلى جانب هذه النظرة الأداتية للمنطق جاء ازدراء القياس المنطقي واستبدل الفيلسوف روجر بيكون بـ (التفكير الاستقرائي) وديكارت مع الحدس العقلاني.

إنّ التجريبية لأندرسون هي في المقام الأول إنكار أي شكل أعلى من الوجود، أي حقيقة أخرى يمكن من خلالها أن نجد الواقع المُختبر راغبًا أو تابعًا أو في موقع جاهد لتقليده وما إلى ذلك، ولذا أيضًا لا تكمن أهمية الواقعية الحديثة في حسابها للمعرفة، ولكن في تطورها لنظرية الاستقلال ورفض أي تصور للوجود النسبي وتطوير منطق المواقف.

لا يوجد معيار للحقيقة ولا شيء بالاعتقاد بأننا نؤمن بشيء آخر، فالحقيقة هي ببساطة ما تنقله الكوبولا (copula) بمعنى الصلة أو الرابط (is) أي (هو) الافتراض، ولا يمكن أن يكمن في التطابق بين افتراض مؤمن وشيء آخر نسميه الواقع، ولا في العلاقات بين الافتراضات من حيث التماسك، والاقتراحات ليست أشكالًا للكلمات: أي نحن ننقل معتقداتنا بالكلمات ولكن ما نطرحه للقبول ليس شكل الكلمات بل الحالة نفسها.

النظريات التمثيلية والمطابقة عن الحقيقة هي محاولات للوقوف وراء الاقتراح، وللحفاظ (بالكلمات!) على أننا نعني أكثر مما يمكننا قوله، كما يجب أن نتخلى عن فكرة الفكر كشيء يتعارض مع الأشياء أو يتطابق معها، فأفكارنا ما هي إلّا تعاملاتنا مع الأشياء، حيث شارك أندرسون مع نورمان كيمب سميث مفهومًا شبه كالفيني للمعرفة على أنّها تكافح وتصارع مع المشكلات بدلاً من عكس الواقع الخارجي، ويرفض أندرسون معظم الفلسفات المعاصرة باعتبارها أنواعًا مختلفة من التمثيلية، فالاقتراح ليس حول أي شيء بمعنى تمثيل واقع خارجي، أو بالأحرى إذا كان متعلقًا بشيء ما فهو يتعلق بموضوع القضية نفسها.

واحدة من أكثر مقالات أندرسون جرأة كانت عام 1934 بعنوان العقل كمشاعر (Mind as Feeling) والذي يحاول تحديد الكيفية التي يجب أن تُفهم بها العقلية على أنّها تنتمي إلى المجال الزماني والمكاني، وقد اعتقد أندرسون أنّه بمجرد أن نعترف بالطبيعة المكانية للعقل أو لأي شيء عقلي، كما تقول الديكارتية.

وكذلك يتألف العالم العقلي من المواقف بقدر ما يتألف من العالم الطبيعي والاجتماعي، ولذا فإنّ معرفتنا بالعقل على قدم المساواة مع اللاعقل، حيث إنه يتنصل من نموذج الموضوع والموضوع الديكارتي الذي يرى أنّ مهمة الفلسفة هي دراسة وسيط المعرفة المفهومة على أنّها العلاقة التي يعيد فيها كيان ما في ذاته جوهر أو خصائص جوهرية لكيان آخر.

لا توجد مثل هذه الوسيلة لأنّه لا توجد كيانات مختلفة في المكان والزمان تتطلب مثل هذه الوساطة، ولا يوجد (عارف) يُنظر إليه على أنّه نقطة وعي صعدت إلى خارج التاريخ وخارج المكان والزمان، وفي سعينا وتصارعنا مع الأوهام من أجل التصالح مع أنفسنا والأشياء من حولنا لا نتخطى أبدًا حركة الأشياء ولا نرى ما وراء الافتراض، ولا تصل أبدًا إلى خارج مجال الادعاء الافتراضي والادعاء المضاد.

ما هذا الشيء الذي يجتهد؟

هنا يتبنى أندرسون وجهة نظر نيتشية، وقبل سقراطية للعقلية باعتبارها بنية اجتماعية للغرائز والعواطف المتنافسة والتعاون، حيث إنّ العواطف أو المشاعر هي التي تسعى جاهدة وتبذل ما في وسعها، فشغف الفضول على سبيل المثال هو الوكيل الفعلي للاستفسار، ولا يوجد كيان لديه إرادة واعية يوجه انتباهنا إلى العالم، فيوضح أندرسون بأنّ الجزء من الخداع بالطبع جزء من الأسطورة التحليلية، وله طابع أناني (ماذا أجد عندما أضع آلة التحليل الخاصة بي تدق؟)، وهذا يتعارض مع حقيقة أنّ اللغة والاستفسار متأصلة في الحياة الاجتماعية وفي جميع مراحلها جزء من الاتصال.

هذا البحث النقدي نفسه يعتمد على وجود طرق محددة للاستمرار وينطلق من داخل طريقة معينة للحياة، ويوفر رابطًا مهمًا واحدًا مع الجانب الأخلاقي لفكر أندرسون، حيث إنّ أساليب الحياة هذه التي تخرج الأفراد من وجودهم الرتيب واهتماماتهم المادية الأساسية هي ما يعتبره أندرسون تجسيدًا للخير الأخلاقي، وبالنسبة لأندرسون إذا كان الصالح موجودًا فإنّه يجب أن نجده صفة طبيعية في هذا العالم تمامًا كما نعرف ونحدد الصفات الطبيعية الأخرى.

ومع ذلك فإنّ الخير ليس مجرد شيء نكتشفه ولكن ذلك الذي نكتشف به الأشياء، فقد كان أندرسون مدركًا أنّ نظرته للصالح كخاصية طبيعية لن تقنع الجميع، وأنّه لا يستطيع فعل الكثير لتحويل المشككين، ولكنه ادعى أنّه سيكون هناك أولئك الذين يدركون حقيقة موقفه، ويرون هذه النظرة للخير على أنّها شيء كانوا على دراية به منذ فترة طويلة بطريقة معينة.


شارك المقالة: