اقرأ في هذا المقال
التاريخ القديم لفلسفة القانون:
في التاريخ الفلسفي للقانون في اليونان القديمة لا يجب المزج بين القانون والعدالة، فالعدالة فكرة والقانون ثمرتها، والعدالة قبل القانون وهي متفوقة عليه، والعدالة مرتبطة بالأخلاق أما القانون فهو جملة قواعد قانونية ومحاكم وقضاة، ويبدو أن سيشرون هو فيلسوف القانون دون منازع في حقبة العصور الرومانية ولكن ثمة سجال لمعرفة إذا ما كانت كتاباته تستوحي من الرواقية أم من أرسطو.
فلسفة القانون في اليونان القديمة:
هوميروس وهسيود:
تم الإعتراف بالمفهوم التجريدي للقانون وإنّ لم تتم مناقشته في قصائد هوميروس وهسيود في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، ومع ذلك في التواريخ والأدب اليوناني في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد يجد المرء أنّ أول تعبير عن أفكار حول القانون كان لها تأثير دائم في الغرب، أي أنّه هذا القانون هو نوع من الأوامر أو الحظر فيما يتعلق بما يجب على رعاياه أن تفعل وهذا القانون غالبًا ما يكون مصحوبًا على الأقل بالتهديد بالعقاب أو الإكراه من قبل الدولة.
هيرودوت:
سجل هيرودوت الذي ولد حوالي 484 قبل الميلاد في كتابه “تاريخ الحروب اليونانية الفارسية”، حيث يسجّل ملك الأسبرطي ملاحظة لملك الفارس المتقشّف بأنّ الإغريق “أحرار لكنهم ليسوا أحرارًا تمامًا، حيث أنّ القانون سيدهم، فهم يخافونه أكثر مما يخافك رجالك، ويفعلون ما يشاءون “.
المؤرخ زينوفون:
بينما المؤرخ زينوفون (حوالي 430 – 350 قبل الميلاد) يروي في مذكراته محادثة ملفقة محتملة بين السيبياديس الشاب وولي أمره، وهو رجل الدولة الأثيني العظيم بريكليس، حيث يعلن الأخير أنّه “أياً كانت السلطة السيادية للدولة، بعد التداول والتشريع والتوجيه، تُعرف بإسم القانون”، وينفي أنّ مجرد إكراه يمارسه طاغية كافٍ للتأهل كقانون.
الكاتب سوفوكليس:
أوضح الكاتب المسرحي العظيم سوفوكليس في مأساته أنتيجون، الفكرة المهمة القائلة بأنّ متطلبات القانون والأخلاق قد تتعارض، وفي المسرحية أمر الملك كريون جسد شقيق أنتيجون بعدم دفنه كعقاب بعد وفاته بتهمة الخيانة، وبسبب الواجب العائلي تستهزئ أنتيجون بالأمر وتدفن الجسد وبالتالي تخاطر بالعقاب وبالموت، وترفض السلطة القانونية للملك قائلة إنّه حتى “لا يمكن تجاوز القوانين غير المكتوبة والثابتة التي قدمتها لنا الآلهة”.
أفلاطون:
لكن أفلاطون (428 / 427-348 / 347 قبل الميلاد) الذي كتب أثناء انحطاط الإمبراطورية الأثينية، كان أول من قدم ادعاءات فلسفية حول طبيعة القانون، وتنوع المصطلح اليوناني ذو الصلة نوموس nomos على نطاق واسع في المعنى عبر السياقات، وغالبًا ما يشير ببساطة إلى الاتفاقية أو الممارسة.
ولكن بحلول وقت أفلاطون اكتسبت المعنى الأكثر تحديدًا لقانون أو توجيه معلن أو مكتوب وضع معيارًا للعمل البشري، ففي حواره كريتو ألقى أفلاطون بشكل خيالي على معلمه سقراط بالسجن والحكم عليه بالإعدام (بتهمة المعصية وإفساد الشباب)، وفي مواجهة الإختيار بين قبول عقوبة الإعدام والهروب وبالتالي عصيان القانون.
بينما في الحوار قدم سقراط حجة استفزازية نيابة عن قوانين أثينا، أنّه نظرًا لما حصل على مزايا وحماية العيش بموجب القانون طوال حياته ولم يترك المدينة أبدًا خارج الاحتجاج، فهو ملزم إما بالطاعة لقوانينها أو لإقناع الدولة بعدم إنفاذها ضده، وبما أنّه فشل (في محاكمته) في المهمة الأخيرة يجب عليه احترام القوانين من خلال إطاعة أوامرهم بغض النظر عن محتواها.
حوار أفلاطون كريتو هو أصل العديد من الأفكار الثابتة في فلسفة القانون، مثل أنّ القانون بطبيعته يدعي السلطة على رعاياه وأنّ العلاقة بين القانون وموضوعاته تؤدي بطريقة ما إلى التزام بالطاعة، ويشير عمل أفلاطون اللاحق إلى إشارة متفرقة إلى القانون لكنه فشل في صياغة فلسفة قوية للقانون بالمعنى الحديث، حيث ما يُعتقد أنّه آخر أعماله في القوانين يحتوي على العديد من المقترحات المحددة لإصلاح قوانين عصره، لكن الغريب أنّه فشل في التعامل مع الأسئلة الفلسفية الأوسع.
أرسطو:
بعد جيل أعطى طالب أفلاطون أرسطو (384-322 قبل الميلاد) تعبيرًا أكثر منهجية لعدد من الأفكار المؤثرة حول القانون، حيث اشتهر أرسطو بقوله إنّ البشر “حيوانات سياسية”، بمعنى أنّهم ينظمون أنفسهم بشكل طبيعي في أنواع مختلفة من المجتمعات أكبرها المدينة أو دولة المدينة (في اليونانية بوليس).
وتتميز المدن بأدبها وهي كلمة غالبًا ما تُترجم على أنّها “دستور” ولكنها في الواقع تشير إلى أي طريقة عامة يمكن أن ينظم بها مجتمع بشري كبير نفسه، وقال أرسطو إنّ القانون “نوع من النظام” وبالتالي يوفر إطارًا شاملاً للقواعد والمؤسسات التي يتم من خلالها تكوين المجتمع، والقانون (على سبيل المثال النظام الأساسي) هو بطبيعته عالمي في الشكل حيث إنّه معيار للسلوك ينطبق بشكل عام فيما يتعلق بكل من فئات الأشخاص وأنواع السلوك التي يحكمها.
بسبب طبيعته العالمية قد يفشل القانون في بعض الأحيان في تطبيقه أو تطبيقه بشكل غير محدد على قضية جديدة غير متوقعة من قبل المشرع، فقد قال أرسطو إنّ المشكلة هنا ليست في القانون أو في عدم التبصر من قبل المشرع بل في “طبيعة القضية”، ففي مثل هذه الحالات ما هو مطلوب هو ممارسة تصحيحية أطلق عليها “الإنصاف”، والتي تتضمن التكهن حول كيفية تطبيق القانون الناقص لو نظر المشرع في الحالة الجديدة ثم طبق القانون وفقًا لذلك.
كان أرسطو أيضًا أول من أوضح ما أصبح يُعرف بالمثل الأعلى لسيادة القانون، وشارك في الرأي اليوناني المشترك بأنّ القانون كمبدأ عام له نصيب في الحكمة الإلهية الأبدية، وعلى هذا النحو كانت أداة لتقييد ممارسة السلطة السياسية لا سيما سلطة الطغاة الذين تمثل سياساتهم مصالحهم الخاصة فقط وليس مصلحة المجتمع.
حول الجدل القديم (حتى في ذلك الوقت) حول ما إذا كان يجب أن يحكم المدينة أفضل قانون أو أفضل شخص، كان موقف أرسطو واضحًا: “من يسأل القانون أن يحكم، هو يطلب من الله والذكاء وليس غيره ليحكم، بينما من يسأل عن حكم الإنسان يستورد أيضًا وحشًا بريًا، فالقانون هو ذكاء بلا شهية. “
فلسفة القانون في روما والعصور الوسطى:
على الرغم من أنّ العديد من جوانب الثقافة اليونانية القديمة كان لها تأثير مستمر في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية من القرن الأول قبل الميلاد فصاعدًا إلّا أنّ القانون لم يكن واحدًا منها، حيث أنشأ الرومان أشكالًا ومؤسسات قانونية جديدة بالإضافة إلى المهنيين القانونيين والإداريين الأوائل.
طور الفقهاء الرومان الشكل الأول لما سيُطلق عليه لاحقًا “العلم القانوني”، وتم اختراع نوع جديد من الكتابة القانونية لخدمة هذا النظام، حيث يقوم الفقهاء بجمع وتنظيم القانون الروماني وفقًا لتصنيفات معقدة بلغت هذه الممارسة ذروتها في الملخص (Digesta)، الذي جمعه الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (حكم 527-565 م) وهو عمل استُخدم في النهاية كأساس للعديد من النظم القانونية الحديثة في أوروبا الغربية.
ولكن في حين تلاشى تأثير القانون اليوناني كان من المفترض أن يستمر التراث اليوناني في فلسفة القانون لعدة قرون، ويمتد عبر العصور الوسطى، حيث كان هناك العديد من التنقيحات والتوسعات للموضوعات والأفكار اليونانية لا سيما ضمن التقاليد المسيحية.
الفيلسوف شيشرون:
صاغ الفقيه والفيلسوف الروماني شيشرون (106-43 قبل الميلاد) المفهوم الأول وقد يقول البعض أنّه نهائي لما يسمى “القانون الطبيعي”، على الرغم من أنّ شيشرون كان ممارسًا قانونيًا وكان على دراية بالقانون الإيجابي (الذي يسنّه الإنسان) للدولة الرومانية، فقد سعى إلى وضعه فيما يتعلق بما اعتبره الحقائق الأخلاقية الموضوعية، والتي أطلق عليها أيضًا “القوانين”، وبالتالي مال كثير من الكتاب حتى يومنا هذا يشيرون إلى الحقائق الأخلاقية الخالدة على أنها “قانون طبيعي”.
في عمله De republica (عن الجمهورية) قال مرددًا سوفوكليس أنّ:
“القانون الحقيقي هو السبب الصحيح الذي يتفق مع الطبيعة، ولتقليص هذا القانون غير المخلص، وتعديله غير المشروع، وإلغائه مستحيلًا، ولن يكون قانونًا واحدًا في روما وقانونًا مختلفًا في أثينا، ولكن نفس القانون أبدي وغير قابلة للتغيير.”
وضع هذا المفهوم الأكثر رحابة للقانون شروطاً أخلاقية صارمة إلى حد ما يجب أن يفي بها القانون الإيجابي الذي صنعه الإنسان، من أجل وصفه بأنه قانون حقيقي: “أولئك الذين صاغوا قوانين شريرة وغير عادلة للأمم، وبالتالي خرقوا وعودهم واتفاقاتهم، ووضعوا في أي شيء ما عدا “القوانين”.
اكتسبت فكرة شيشرون القائلة بأنّ هناك معايير أخلاقية لتحديد صحة القانون الوضعي انتشارًا في القرون التي تلت ذلك، وادعى القديس أوغسطينوس من هيبو (354-430 م) مقتضبًا لاحقًا أنّ “القانون الجائر لا يبدو أنّه قانون على الإطلاق” وخدم لقرون كنوع من شعار تقليد القانون الطبيعي، على الرغم من تأكيدات بعض النقاد أنّها كانت غامضة أو متناقضة.
الفيلسوف توما الأكويني:
أعطيت نظرية القانون الطبيعي أول معالجة منهجية لها من قبل الفيلسوف المسيحي العظيم القديس توما الأكويني (1224 / 25–74)، حيث عمل الأكويني عمومًا ضمن الإطار المفاهيمي والمبادئ الأساسية لفلسفة أرسطو عن الطبيعة والقيمة والسياسة، ولكن غالبًا ما وسعها وعدّلها بطرق جديدة وهذا هو الحال خاصة في حالة فلسفته في القانون.
عرّف الأكويني القانون جزئيًا على أنّه “مرسوم للعقل” أي وصفة يتم إنتاجها (من قبل المشرعين) والإستجابة لها (من قبل الأفراد) من خلال ممارسة قدرة العقل البشرية المميزة، وادعى بعبارات أوضح مما كانت عليه في النظريات السابقة أنّ القانون له بطبيعته نقطة أو غرض مميز، بالمعنى الأكثر تجريدًا فإنّ الغرض من القانون هو خدمة الصالح العام للمجتمع السياسي، وبشكل أكثر تحديدًا فإنّ القانون هو خطة تنسيقية معلنة يمكن للمجتمع من خلالها تحقيق سلع (ملموسة وغير ملموسة) لا يمكن تحقيقها بوسائل أخرى.
تتمثل أطروحة القانون الطبيعي المركزية لأكويني في أنّ القانون الوضعي الصالح مشتق بالضرورة من المبادئ الأخلاقية الموضوعية (أو الحقائق الأخلاقية)، ويمكن أن يحدث هذا الاشتقاق بطريقتين:
- يمكن اشتقاق القانون من خلال نوع من الاستنتاج الفوري من المبادئ الأخلاقية: مثل وجود تطابق مباشر في المحتوى بين القاعدة الأخلاقية والقانونية، على سبيل المثال من المبدأ الأخلاقي القائل بأنّ القتل خطأ يمكن صياغة الحظر القانوني للقتل وإصداره.
- يمكن اشتقاق القانون من الأخلاق: وذلك من خلال عملية غير مباشرة والتي أطلق عليها الأكويني (باللاتينية) تحديد أو تحديد كيفية تطبيق مبدأ أخلاقي عام في ظروف معينة لتسهيل التنسيق البشري، وزعم أنّ الكثير من القانون الوضعي مشتق من الأخلاق بهذه الطريقة الثانية.
رأى الأكويني أنّه إذا لم يتم اشتقاق القانون الوضعي من المبادئ الأخلاقية الصحيحة بأي من هاتين الطريقتين فعندئذٍ للتذكير شعار أوغسطين، فإنّ هذه القوانين “غير عادلة” وتفشل في أن تكون “قانونًا”، ونتيجة لذلك فإنّهم لا يتمتعون بأي سلطة ملزمة بحيث يلتزم المواطنون بطاعتهم.
أصبح تفسير الأكويني للعلاقة بين القانون والأخلاق أكثر تعقيدًا من خلال تفسيره لمن هو الأكثر ملاءمة للعمل كحاكم ومشرع، ومفاهيم المشرع الرسمي والقوانين الملزمة أخلاقياً التي وضعها ذلك الشخص مترابطة، فالهدف من القانون هو خدمة الصالح العام، وإذا كان المرشح التشريعي قادرًا على فعل ذلك بفعالية من خلال ممارسة الحكم السياسي، فإنّ الأكويني يذهب إلى حد القول إنّ مثل هذا الشخص ملزم بالحكم، والسلطات السياسية الشرعية هي تلك التي تحركها “رعاية المجتمع”، وأي قانون يتم إنشاؤه من دوافع أخرى هو شكل مميز من أشكال الظلم الذي يمكن أن يبطل القانون الوضعي.