فلسفة القانون والواقعية القانونية

اقرأ في هذا المقال


الفلسفة القانونية:

تهتم فلسفة القانون (أو الفلسفة القانونية) بتقديم تحليل فلسفي عام للقانون والمؤسسات القانونية، تتراوح القضايا في هذا المجال من الأسئلة المفاهيمية المجردة حول طبيعة القانون والأنظمة القانونية إلى الأسئلة المعيارية حول العلاقة بين القانون والأخلاق والتبرير لمختلف المؤسسات القانونية، وفي القرن العشرين ظهرت مدارس ضمن الإطار الوضعي للفلسفة القانونية والواقعي للفلسفة القانونية.

ما هي الواقعية القانونية؟

نظرًا لأنّ الموقف القانوني الوضعي سواء كان كلسينيان Hans Kelsen أو هارتيان H.L.A. Hart أصبح وجهة النظر السائدة بين فلاسفة القانون في القرن العشرين، فقد تطور جنبًا إلى جنب مع منهج مؤثر ولكنه مختلف تمامًا للتفكير في القانون والذي يوصف عادة بالواقعية القانونية.

فكانت الحركة الواقعية القانونية مستوحاة من جون تشيبمان جراي وأوليفر وندال هولمز ووصلت إلى ذروتها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي من خلال أعمال كارل ليولين وألف روس وجيروم فرانك وفيليكس كوهين، وتجنب الواقعيون النهج المفاهيمي للوضعيين وعلماء الطبيعة لصالح التحليل التجريبي الذي سعى إلى إظهار كيف يقرر القضاة الممارسون فعلاً القضايا.

ولكن أهم شخصيتين في هذا الصدد هما الدنماركي ألف روس (Alf Ross (1899-1979 والأمريكي كارل لويلين (Karl Llewellyn (1893-1962 على الرغم من أنّهما كانا نظريين مختلفين تمامًا، وكان روس فيلسوفًا منهجيًا قام بالتدريس في كلية الحقوق، وكان لويلين مبتدئًا فلسفيًا ولكنه محام وأستاذ بارع للغاية ومؤثر، وكان كلا النوعين من الواقعية الاسكندنافي والأمريكي، حيث كانا متشككين في فكرة أنّ القوانين المكتوبة تشرح فعلاً سلوك القضاة، وكلاهما يعتمد على نظرة طبيعية للعالم يُفترض فيها أنّ يكون الواقع كما وصفته العلوم.

كمسألة تاريخية نشأت الواقعية القانونية ردًا على الشكليات القانونية، وهو نموذج معين من التفكير القانوني يدمج التفكير القانوني في التفكير المنطقي، ووفقًا للنموذج الشكلي فإنّ النتيجة القانونية (أي الحجز) تتبع منطقيًا القاعدة القانونية (المقدمة الرئيسية) وبيان الحقائق ذات الصلة (فرضية ثانوية)، ويعتقد الواقعيون أنّ الشكلية تقلل من قدرات التشريع القضائي بقدر ما تمثل النتائج القانونية التي تستلزمها القياس المنطقي بالقواعد والحقائق المعمول بها، لأنّه إذا كانت النتائج القانونية مضمنة منطقيًا من خلال مقترحات تلزم القضاة، فإنّ ذلك يعني أنّ القضاة يفتقرون إلى السلطة القانونية للوصول إلى نتائج متضاربة.

وكان الواقعيون متشككين بشدة في الفكرة السائدة بأنّ التشريع القضائي نادر، بينما لم يرفض الواقعيون فكرة أنّ القضاة يمكن أن يكونوا مقيدين بالقواعد، إلّا أنّ الواقعيين أكدوا أنّ القضاة ينشئون قانونًا جديدًا من خلال ممارسة السلطة التقديرية لصنع القانون في كثير من الأحيان أكثر مما يُفترض عادة، ومن وجهة نظرهم يتم توجيه القرار القضائي في كثير من الأحيان من خلال الحدس السياسي والأخلاقي حول حقائق القضية (بدلاً من القواعد القانونية) أكثر من نظريات مثل الوضعية والطبيعية.


ادعاءات الواقعية القانونية:

يمكن وصف الواقعية القانونية تقريبًا بالادعاءات التالية:

  1. فئة المواد القانونية المتاحة غير كافية للاستدلال المنطقي على نتيجة قانونية فريدة في معظم الحالات التي تستحق التقاضي على مستوى الاستئناف (أطروحة عدم التحديد المحلية).
  2. في مثل هذه الحالات يضع القضاة قانونًا جديدًا في الفصل في المنازعات القانونية من خلال ممارسة سلطة تقديرية لتشريع القانون (أطروحة التقدير).
  3. وتتأثر القرارات القضائية في القضايا غير المحددة بالمعتقدات السياسية والأخلاقية للقاضي وليس بالاعتبارات القانونية.

على الرغم من أن (3) مستقلة منطقيًا عن (1) و (2)، و(1) يبدو أنّها تعني (2) أي بقدر ما يقرر القضاة القضايا غير المحددة قانونًا فإنّه يجب عليهم إنشاء قانون جديد.

ألف روس:

بالنسبة لروس فإنّ الافتراض الطبيعي كان صريحًا أي متأثرًا بالنظريات الوضعية المنطقية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي (والتي لم تكن مرتبطة بالوضعية القانونية)، وقبل روس الرأي القائل بأنّ الأشياء الوحيدة الموجودة حقًا هي تلك التي وصفها مختلف العلوم من الفيزياء إلى علم الأحياء إلى علم النفس.

ونظرًا لأنّ العلوم التجريبية لا تفسر الظواهر الطبيعية من حيث المعايير فهي لا تشير إلى الالتزامات أو الواجبات أو الحقوق أو العدالة، وعلى سبيل المثال خلص علماء الطبيعة مثل روس إلى أنّ مثل هذه المعايير غير موجودة بالفعل، لكن كأستاذ قانون لم يرغب روس بالتأكيد في توسيع هذا الاستنتاج ليشمل القوانين والأنظمة القانونية نفسها، وبدلاً من ذلك اقترح أنّ الأحكام القانونية من شكل أنّ “السيد سميث مُلزم تعاقديًا بدفع 5000 دولار للسيد جونز مقابل هذه الأدوات ” ويمكن تفسيره على أنّه يعني شيئًا مثل” أشعر القاضي بشدة أنّ السيد سميث يجب أن يدفع للسيد جونز 5000 دولار مقابل هذه الأدوات وإذا كان لا سأعاقبه.”

على الرغم من أنّ هارت انتقد مثل هذه “نظريات التنبؤ” باعتبارها غير مناسبة للمفهوم العادي للقانون (بعد كل شيء فإنّ القاضي الذي يقرر ما إذا كان السيد سميث مدينًا بالسيد جونز لا يحاول التنبؤ بسلوكه)، ولم يكن روس مهتم بالمفهوم العادي للقانون، وبدلاً من ذلك كان هدفه تقديم تفسير للمصطلحات القانونية بما في ذلك “الالتزام التعاقدي” والذي سيكون متوافقًا مع النظرة الطبيعية للعالم، ومن خلال هذه التفسيرات كان روس يأمل في تفسير ظاهرة القانون في عالم تم تصوره بشكل طبيعي.

كارل لويلين:

غالبًا ما يُقال إنّ الشخصية المؤسسة للواقعية القانونية الأمريكية هي القانوني أوليفر ويندل هولمز جونيور (1841-1935)، حيث بدت محاضرته التي ألقاها عام 1897 بعنوان “مسار القانون” (التي نُشرت في مجلة Harvard Law Review) عن العديد من الموضوعات الرئيسية للواقعية أي الفرق بين القانون والأخلاق (وهو موضوع يرتبط أيضًا بالوضعية القانونية)، والادعاء بأنّ القانون غالبًا ما يكون وجهه غير محدد في تطبيقه على قضايا معينة، والاشتباه في أنّ القضاة غالبًا ما يتأثرون عند البت في القضايا باعتبارات غير قانونية، على سبيل المثال وجهات نظرهم حول السياسة الاقتصادية أو العدالة.

تلقت هذه الموضوعات تطورها الأكثر شمولاً في عمل لويلين Llewellyn الذي تأثر بحركة القانون الحر الألمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهي مدرسة علم القانون الأولية، ووفقًا للويلين في معظم الحالات التي تصل إلى مستوى المراجعة الاستئنافية (حيث يتم الاستماع إليها من قبل محكمة الاستئناف)، يكون القانون غير محدد عمومًا بمعنى أنّ المصادر القانونية الموثوقة (مثل القوانين والسوابق والدساتير) لا تبرر قراراً فريداً.

تنشأ عدم التحديد وفقًا للويلين في المقام الأول بسبب وجود شرائع متضاربة ولكنها شرعية بنفس القدر للتفسير لهذه المصادر لذلك يمكن قراءة نفس المصدر القانوني بطريقتين مختلفتين على الأقل، على سبيل المثال أثبت لويلين أنّ المحاكم الأمريكية قد أيدت كلا المبدأين المتناقضين للبناء التشريعي وهما:

  • لا يمكن أن يتجاوز القانون نصه.
  • لتحقيق الغرض منه يمكن تنفيذ القانون بما يتجاوز نصه.

إذا كان بإمكان المحكمة أن تستأنف بشكل صحيح أمام أي قانون عندما تواجه مسألة تفسير قانوني فيمكنها أن تصل بشكل مشروع إلى تفسرين مختلفين على الأقل لمعنى القانون المعني، وبالنسبة لمثل هذه الحالات كان السؤال الذي طرحه الواقعيون هو: لماذا توصل القاضي إلى النتيجة التي توصل إليها مع العلم أنّ القانون ومبادئ الاستدلال القانوني لا تتطلب منه ذلك؟، فقدم لويلين حجة مماثلة حول الطرق المتضاربة ولكنها شرعية بنفس القدر لتفسير السابقة والتي أطلق عليها وجهات النظر “الصارمة” و “الفضفاضة” للسوابق.

ووفقًا للويلين يتمتع القاضي دائمًا بالقدرة على تمييز قرار في قضية سابقة إما بطريقة محددة للغاية للحقائق وذلك لتمييزه عن القضية الحالية أو بطريقة تلخص من الحقائق المحددة للقضية، وفي وقت سابق وذلك لجعلها ملزمة في هذه القضية وبالتالي وفقًا للويلين لم يتم تقييد القضاة أبدًا بالسوابق.

ومع ذلك مثل معظم الواقعيين الأمريكيين اعتقد لويلين مع ذلك أنّ القرارات القضائية تقع في أنماط يمكن التنبؤ بها (على الرغم من أنّها ليست بالطبع الأنماط التي يمكن للمرء أن يتنبأ بها بمجرد النظر إلى قواعد القانون الحالية)، ومع التركيز في المقام الأول على النزاعات في قانون الأعمال جادل ليولين بأنّ ما يفعله القضاة حقًا في مثل هذه الحالات هو محاولة فرض المعايير غير المقننة ولكن السائدة للثقافة التجارية التي نشأ فيها النزاع.

في أحد الأمثلة الشهيرة حدد لويلين سلسلة من قضايا نيويورك التي طبقت فيها المحاكم القاعدة التي تنص على أنّ المشتري الذي يرفض شحنة البائع بإبداء اعتراضاته رسميًا يتنازل بالتالي عن جميع الاعتراضات الأخرى، وكان قد أشار لويلين إلى أنّه يبدو أنّه تم تطبيق القاعدة بقسوة إلى حد ما في هذه الحالات نظرًا لأنّ المشتري ربما لم يكن على علم بعيوب أخرى في وقت الرفض أو أنّ البائع لم يكن بإمكانه معالجة العيوب على أي حال.

ومع ذلك كشفت دراسة متأنية للوقائع الأساسية أنّه في كل حالة يبدو أنّ القاعدة قد طبقت فيها بقسوة فإنّ ما حدث بالفعل هو أنّ السوق قد ساء وكان المشتري يسعى للإفلات من العقد، وطبق القاضي نظرًا لكونه “حساسًا تجاه التجارة أو الآداب العامة” (كما قال ليويلين)، والقاعدة غير ذات الصلة بشأن الرفض لإحباط محاولة المشتري الإفلات من العقد.

وهكذا فإن القاعدة التجارية يجب على المشترين الوفاء بالتزاماتهم حتى في ظل ظروف السوق المتغيرة، وتم إنفاذها من قبل المحاكم من خلال تطبيق قاسي على ما يبدو لقاعدة غير ذات صلة تتعلق بالرفض، وهذه “الحقائق الأساسية وهي تلك المتعلقة بالممارسات التجارية وتلك المتعلقة بنوع الموقف”، ووفقًا لما ذكره لويلين هي التي تحدد مسار مثل هذه القرارات.

من خلال لفت الانتباه إلى دور العوامل غير القانونية في صنع القرار القضائي بدأ ليولين والواقعيون منعطفًا متعدد التخصصات في التعليم القانوني الأمريكي وأوضحوا الحاجة إلى المحامين للاستفادة من العلوم الاجتماعية في فهم تطور القانون وما يفعله القضاة، وتستمد الكثير من أدبيات العلوم السياسية المعاصرة حول القانون والمحاكم إلهامها من الواقعية من خلال السعي إلى تفسير القرارات ليس بالإشارة إلى الأسباب القانونية (التي يُفترض أنّها غير محددة) ولكن بالإشارة إلى الحقائق المتعلقة بسياسة القضاة وخلفيتهم وأيديولوجيتهم.


شارك المقالة: