الفيلسوف القديس أوغسطين:
كان القديس أوغسطين عالم لاهوتي معروف وكاتب غزير الإنتاج وكان أيضًا واعظًا وخطيبًا ماهرًا، وهو أحد آباء الكنيسة اللاتينيين، وقد شكلت أعمال أوغسطين الكتابية العديدة وأهمها الاعترافات (حوالي 400) ومدينة الله (حوالي 413-426)، ممارسة التفسير الكتابي وساعدت في إرساء الأساس لكثير من الفكر المسيحي في العصور الوسطى والحديثة، كما أنّه في الكاثوليكية الرومانية يُعرف رسميًا بأنّه طبيب للكنيسة.
حياة الفيلسوف أوغسطين:
عاش أوغسطين والمسمّى باللاتيني أوريليوس أوغستينوس (Aurelius Augustinus) في الفترة من 13 نوفمبر من عام 354 إلى 28 أغسطس من عام 430، وقد ولد في تاغاستي (Thagaste) في إفريقيا الرومانية (سوق أهراس الحديثة في الجزائر)، ويبدو أنّ والدته مونيكا وهي مسيحية متدينة قد مارست تأثيرًا عميقًا ولكن ليس بشكل كامل على تطوره الديني، وقد تم تعميد والده باتريسيوس (Patricius) على فراش الموت.
كان من المأمول أن تمهد دراساته لقواعد اللغة والبلاغة في مراكز المقاطعات في مادوروس وقرطاج، والتي أرهقت الموارد المالية لوالديه من الطبقة المتوسطة لتمهيد طريقه لمهنة مستقبلية في الإدارة الإمبراطورية العليا.
في قرطاج في سن ثمانية عشرة عامًا وجد عشيقة عاش معها في زواج أحادي لمدة 14 عامًا تقريبًا وأنجبت منه ابنًا والذي حمل اسم اديوديتوس (Adeodatus) والذي تم تعميده مع والده في ميلانو وتوفي بعد ذلك بقليل (390 تقريبًا) بعمر 18.
في عام 373 أصبح أوغسطين مستمعًا (مدققًا) للمانيشية، وهي ديانة ثنائية ذات أصول فارسية تطورت في شمال إفريقيا إلى مجموعة متنوعة من المسيحية (واضطهدتها الدولة باعتبارها بدعة)، واستمر تمسكه بالمانيشية لمدة تسع سنوات وعارضه بشدة مونيكا، على الرغم من أنّه من المحتمل أن يكون نشطًا كمدافع ومبشر مانوي، إلّا أنّه لم يصبح أبدًا أحد المختارين في الطائفة الذين التزموا بالزهد والامتناع عن ممارسة الجنس.
الفكر الفلسفي لدى أوغسطين:
في عام 383 انتقل إلى ميلانو عاصمة النصف الغربي للإمبراطورية آنذاك، ليصبح أستاذاً للبلاغة يتقاضاه المال العام ومديحاً رسمياً في البلاط الإمبراطوري، وهنا أرسل عشيقته لإفساح الطريق أمام زواج مفيد (وهو سلوك يُفترض أنّه شائع لدى المهنيين الشباب في تلك الحقبة).
في ميلانو خضع لتأثير الأسقف أمبروز (339-397) الذي علمه الطريقة المجازية للتفسير الكتابي، وبعض المسيحيين الذين يميلون إلى الأفلاطونية الحديثة الذين عرفوه بفهم للمسيحية كان مستنيرًا فلسفيًا، وبالنسبة لأوغسطين كان أكثر إرضاءً من الناحية الفكرية من المانوية التي كان قد بدأ بالفعل في إبعاد نفسه عنها.
انتهت فترة عدم اليقين والشك التي تلت ذلك، والتي تم تصويرها في إعترافات على أنّها أزمة بالمعنى الطبي، وفي صيف 386 عندما تحول أوغسطين إلى المسيحية الزهدية وتنازل عن كرسيه الخطابي وآفاقه المهنية الأخرى، وبعد شتاء من الراحة الفلسفية في مزرعة كاسيياكوم (Cassiciacum) الريفية بالقرب من ميلانو، تم تعميد أوغسطين من قبل أمبروز في عيد الفصح 387 وعاد إلى إفريقيا، برفقة ابنه وبعض الأصدقاء وأمه الذين ماتوا في الرحلة أوستيا في عام 388.
في عام 391 على ما يبدو رُسم كاهنًا في أبرشية مدينة هيبو ريجيوس البحرية (عنابة الحديثة بالجزائر) رغمًا عن إرادته، و بعد حوالي خمس سنوات (حوالي 396) خلف الأسقف المحلي، وتضمنت هذه الوظيفة الكنسية واجبات رعوية وسياسية وإدارية وقانونية جديدة، وقد تكون مسؤوليته وخبراته مع جماعة مسيحية عادية قد ساهمت في تعديل وجهات نظره حول النعمة والخطيئة الأصلية، لكن مهاراته الخطابية هيئته جيداً لوعظه اليومي وللخلافات الدينية.
طوال حياته كأسقف شارك في الخلافات الدينية مع المانويين والدوناتيين والبيلاجيين وإلى حد أقل الوثنيين، وكانت معظم الكتب والرسائل العديدة التي كتبها في تلك الفترة جزءًا من هذه الخلافات أو على الأقل مستوحاة منها وحتى تلك التي لم تكن، على سبيل المثال الثالوث (De trinitate) وفي سفر التكوين (De Genesi ad litteram)، والتي تجمع بين التعليم الفلسفي أو اللاهوتي مع الإقناع البلاغي.
كانت الجدالات ضد أتباعه في الدين السابقين المانويين تلوح في الأفق في عمله حتى حوالي 400، حيث ساعد النقاش معهم في تشكيل أفكاره حول عدم جوهرية الشر والمسؤولية الإنسانية، وتعود جذور الانقسام الدوناتي إلى الاضطهاد العظيم الأخير في بداية القرن الرابع، واعتبر الدوناتيون أنفسهم الخلفاء الشرعيين لأولئك الذين ظلوا صامدين أثناء الاضطهاد وادعوا أنّهم يمثلون التقليد الأفريقي للكنيسة المسيحية الطاهرة.
منذ عام 405 تم تصنيف الدوناتيين تحت القوانين الإمبراطورية ضد البدعة وأجبروا على العودة إلى الكنيسة الكاثوليكية بالوسائل القانونية، حيث تم تكثيف هذه الإجراءات بعد مؤتمر في قرطاج (411)، الذي كان قد شكل النهاية الرسمية للدوناتية في إفريقيا، وعن طريق كتاباته الدؤوبة ضد الدوناتيين شحذ أوغسطين أفكاره الكنسية وطور نظرية الإكراه الديني على أساس فهم متعمد للحب المسيحي.
كانت حركة بلاجينزم (Pelagianism) التي سميت على اسم الزاهد الإنجليزي بلاجيوس (Pelagius) -وهي العقيدة اللاهوتية لبلاجيوس وأتباعه ولا سيما إنكار مذاهب الخطيئة الأصلية والأقدار، والدفاع عن الخير البشري الفطري والإرادة الحرة- حركة أدركها أوغسطين حوالي عام 412، وتمكن هو ورفاقه الأساقفة الأفارقة من إدانتها باعتبارها بدعة في عام 418، بينما لم ينكر أهمية النعمة الإلهية، وأصر بيلاجيوس وأتباعه على أنّ الإنسان بطبيعته حر وقادر على عدم ارتكاب الخطيئة.
ضد هذا الرأي دافع أوغسطين بقوة عن مذهبه عن الاعتماد الجذري للإنسان على النعمة، وهو الاقتناع الذي تم التعبير عنه بالفعل في الاعترافات ولكن تم صقله وتشديده خلال الجدل، وتميز العقد الأخير من حياة أوغسطين بنقاش لاذع مع الأسقف البيلاجي السابق جوليان من اكلانوم (Aeclanum) الذي اتهم أوغسطين بالتشفير المانوية وإنكار الإرادة الحرة.
يبدو أنّ الجدل مع التقليديين الوثنيين وصل إلى ذروته بعد عام 400، عندما دحض أوغسطين سلسلة من الاعتراضات ضد المسيحية المستخرجة على ما يبدو من أطروحة بورفيري ضد المسيحيين، انتهت حياة أوغسطين عندما حاصر الفاندال فرس النهر، وقيل أنّه مات وكلمة أفلوطين على شفتيه.
كيف أثّر القديس أوغسطين على العالم؟
ربما يكون القديس أوغسطين هو المفكر المسيحي الأكثر أهمية بعد القديس بولس، فقد قام بتكييف الفكر الكلاسيكي مع التعاليم المسيحية وخلق نظامًا لاهوتيًا قويًا له تأثير دائم، كما أنّه شكل ممارسة التفسير الكتابي وساعد في إرساء الأساس للكثير من الفكر المسيحي في العصور الوسطى والحديثة.
بماذا يشتهر القديس أوغسطين؟
نجت أكثر من خمسة ملايين كلمة من كتابات القديس أوغسطين، بدءًا من الخطب إلى الأطروحات اللاهوتية، ومن بين هؤلاء كان لاثنين من هؤلاء تأثير دائم بشكل خاص:
1- مدينة الله.
2- الاعترافات.
فالأول هو دفاع فلسفي عن المسيحية يرسم الخطوط العريضة لطريقة جديدة لفهم المجتمع البشري، والأخيرة هي إلى حد كبير فحص الذات الروحي.