كان الفيلسوف الفرنسي بيير بايل (Pierre Bayle) فيلسوفًا ومؤرخًا فرنسيًا متشككًا في القرن السابع عشر، واشتهر بعمله الموسوعي المعجم التاريخي والنقدي لعام 1697 في طبعته الأولى ولعام 1702 في طبعته الثانية، وهو عمل كان له تأثير كبير على شخصيات القرن الثامن عشر مثل الفيسلوفان فولتير (Voltaire) وتوماس جيفرسون (Thomas Jefferson).
المنظور العام لفلسفة بايل:
يوصف بايل تقليديًا بأنّه متشكك على الرغم من أنّ طبيعة ومدى شكوكه لا تزال محل نقاش ساخن، كما اشتهر بدفاعاته الصريحة عن الإيمان الديني ضد هجمات العقل، ولهجماته على العقائد اللاهوتية الخادعة، وصياغته لعقيدة الضمير الضال كأساس للتسامح الديني.
وعلى عكس معاصريه في القرن السابع عشر فإنّ الفيلسوف بايل هو في الأساس مفكر مناهض للنظام، وتمشيًا مع شكوكه (أي المفهوم بالمعنى القديم)، فهو ملتزم بإجراء فحص شامل للحجج المؤيدة والمعارضة للموقف قيد الدراسة، وهذا يستلزم تقديم أفضل الحجج الممكنة من كلا الجانبين فضلاً عن إثارة أقوى الاعتراضات الممكنة لكلا الجانبين.
نتيجة لذلك في كثير من الحالات من الصعب تحديد موقف بايل، ويشير المعلقون إلى هذه الظاهرة باسم (لغز بايل)، وهي تؤثر فعليًا على كل مجال من مجالات فكر بايل، مما يقوض شرعية دفاعاته عن الإيمان الديني ويشكك في صدق هجماته على اللاهوت.
يمتد تأثير بايل إلى ما وراء الفلاسفة، حيث أثارت نصوصه اهتمام المؤرخين وعلماء الدين وعلماء الأدب والمنظرين السياسيين، وكانت فلسفة بايل غزيرة الإنتاج بشكل لا يصدق سواء في المراسلات الشخصية أو في الأعمال المنشورة، وأظهر الشكل الموسوعي لقاموسه اتساع وعمق معرفته المذهلين، وهو التعلم الذي تم عرضه أيضًا خلال سنوات عمله كمحرر للمجلة الفكرية أخبار من جمهورية الآداب (News from the Republic of Letters) للأعوام من 1684 إلى عام 1687.
كما أنتج بايل معظم محتوى المجلة -في المقام الأول مراجعات الكتب- أثناء تحريره، وقد تم إثبات تأليفه للأعمال المجهولة وكان آخرها في قضية (نصيحة هامة للاجئين) في عام 1690، ويعد هذا التنوع الهائل للموضوعات التي عالجها بايل على مدار حياته، وتنوع الأشكال التي استخدمها للقيام بذلك، والطبيعة غير المحددة لحججه تجعله موضوعًا ثريًا للبحث العلمي.
السيرة الذاتية والسياق الفكري:
نشأ بايل على أنّه كالفيني (أي أحد أتباع مذهب كالفين) فرنسي أو هوجوينوت (بروتستانتي فرنسي)، كما أنّه منذ ولادته عام 1647 في كارلا (Le Carla) وهي قرية صغيرة في جنوب فرنسا، حتى غادر إلى الكلية اليسوعية في تولوز، كما أنّ والده وهو قس من الهوجوينت، وقد اندهشت عائلته من تحوله إلى الكاثوليكية عام 1669، حيث يفترض أنّه نتيجة لدراساته تحت قيادة اليسوعيين في تولوز، وقد أعاد بايل التحول إلى الكالفينية بعد ثمانية عشر شهرًا، ومع ذلك أصبح رسميًا (rélaps)، وهو التصنيف الديني الأكثر اضطهادًا في ظل الملكية الفرنسية الكاثوليكية.
كما هو متوقع هرب بايل بعد ذلك من فرنسا، ودرس في معهد كالفيني في جنيف لمدة عامين تحت حكم لويس ترونشين، وبعد أن اكتشف بايل أنّ الدعوة الرعوية ليست له انتقل إلى جامعة جنيف لدراسة الفلسفة الديكارتية، وبعد أن أكمل دراسته هناك وعاد إلى فرنسا متخفيًا باسم (بال) (Bâle) عام 1674، أمضى بايل عامًا كمدرس في روان (Rouen ) وباريس قبل أن يحصل على منصب عام 1675 في أكاديمية سيدان (Sedan) البروتستانتية.
كان في سيدان أن تواصل بايل لأول مرة مع بيير جوريو (Pierre Jurieu)، عالم اللاهوت الكالفيني الذي أصبح معلم بايل، ولكن بمرور الوقت كان ألد أعدائه، ففي البداية كان بايل وجوريو قريبين جدًا لدرجة أنّه عندما أغلقت الحكومة الفرنسية أكاديمية سيدان في عام 1681، اتبع بايل جوريو إلى مدرسة إيليوستر وهي أكاديمية في روتردام للاجئين هوجوينوت حيث انضم كلاهما إلى هيئة التدريس، فمن المحتمل أن نشأ العداء المتبادل بينهما هو رفض بايل للزواج الذي رتبته عائلة جوريو، ولكن كانت هناك أيضًا أسباب فكرية لتبريد علاقة بايل وجوريو.
أثار نشر تعليق بايل الفلسفي من عام 1686 إلى عام 1688 الذي دعا إلى التسامح الديني بالفعل شكوك جوريو في بايل، وازداد العداء بشكل ملحوظ في عام 1690 عندما تسببت (نصيحة مهمة للاجئين) التي نشرها بايل مجهولة المصدر في شن هجمات ساخنة من قبل جوريو، والذي رأى العمل على أنّه مناهض للبروتستانت بشكل عميق.
خلال سنواته الأولى في روتردام ركزت جميع كتابات بايل تقريبًا على مهاجمة اللاهوت والممارسة الكاثوليكية، بما في ذلك النقد العام لتاريخ ميمبورغ للكالفينية في عام 1682، وأفكار متنوعة بمناسبة المذنب عام 1683 وكاثوليكي بالكامل فرنسا عام 1686.
وفرت وفاة والد بايل وإخوته في عامي 1684 و1685 وإلغاء مرسوم نانت عام 1685 أسبابًا شخصية قوية لبايل لمهاجمة التعصب الكاثوليكي، حيث رأى جوريو في النصيحة للاجئين كدليل على أنّ بايل انقلب ضد جذوره في الهوجوينوت وشجب بايل باعتباره مهرطقًا، ومع ذلك كانت تصريحات جوريو العلنية ضد بايل غير متوافقة مع إخلاص بايل للمجتمع الإصلاحي في روتردام، ويبدو أنّ الأدلة من فراش موت بايل تدعم تمسكه بالديانة الكالفينية لبقية حياته.
النص الذي عزز سمعة بايل كخطر جسيم على المعتقد الديني كان معجمه، وهو العمل الموسوعي الذي كان أعظم تأليف لبايل، حيث يحتوي القاموس على العديد من المقالات التي تنتقد ضمنيًا معاصريه البروتستانت بما في ذلك جوريو، بالإضافة إلى المقالات التي يبدو أنّها تقوض عقلانية المعتقد الديني ككل.
فقد أوضح بايل انتقاداته في الطبعة الثانية من القاموس عام 1702، والتي تضمنت (Eclaircissements) أو التوضيحات على العديد من المقالات الأكثر إثارة للجدل، وهذه التفسيرات أو التوضيحات لم تحرف النقد، ومع ذلك قدم بايل المزيد من العلف لنقاده بنشر رده على أسئلة المقاطعات في عام 1704 واستمرار الأفكار المتنوعة في عام 1705.
تحتوي هذه الأعمال المتأخرة على إعادة بناء لمواقف ملحدة متماسكة، وتدعم موقف بايل السابق من الأفكار المتنوعة بأنّ الملحدين يمكن أن يكونوا مستقيمين أخلاقياً، واستمر بايل في الرد على منتقديه حتى يوم وفاته في 28 ديسمبر 1706، وفي ذلك اليوم كتب في رسالة إلى صديق: “أنا أموت كفيلسوف مسيحي، مقتنع ومثقوب بنعم الله ورحمته”.
على الرغم من هذا الدليل الأخير تجاه الإخلاص الديني لبايل، فإنّ العديد من فلاسفة التنوير في الأجيال التي تلت بايل رآه سلفهم الفكري، فقد كان فولتير واحدًا من أشهر المعجبين ببايل والذي ربما يكون المسؤول الأكبر عن سمعة بايل باعتبارها (ترسانة التنوير) في إشارة إلى الحجج العديدة التي وجدها الفلاسفة في بايل.
كما قام الفلاسفة بتكييف هذه الحجج لمهاجمة المعتقدات الدينية والخرافية بين الفلاسفة وعلماء الدين، مستخدمين الحجج لإظهار عبثية أي معتقد خارق للطبيعة على الإطلاق، وحددت صورة التنوير لبايل مكانته في التاريخ الفكري حتى أحدث تفسيرات القرن العشرين.