القانون والحقوق الطبيعية في فلسفة السياسة لدى جون لوك

اقرأ في هذا المقال


ربما كان المفهوم الأكثر مركزية في فلسفة لوك السياسية هو نظريته عن القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، ووُجد مفهوم القانون الطبيعي قبل فترة طويلة من وجود لوك كوسيلة للتعبير عن فكرة وجود حقائق أخلاقية معينة تنطبق على جميع الناس بغض النظر عن المكان المحدد الذي يعيشون فيه أو الاتفاقات التي أبرموها، وكان التناقض المبكر الأكثر أهمية بين القوانين التي كانت بطبيعتها، وبالتالي قابلة للتطبيق بشكل عام وتلك التي كانت تقليدية وتعمل فقط في تلك الأماكن التي تم فيها وضع الاتفاقية الخاصة يُصاغ هذا التمييز أحيانًا على أنّه الفرق بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي.

الفرق بين القانون الطبيعي والقانون الإلهي لدى لوك:

يختلف القانون الطبيعي عن القانون الإلهي من حيث أنّ الأخير في التقليد المسيحي يشير عادةً إلى تلك القوانين التي شرعها الله مباشرة من خلال الأنبياء والكتاب الملهمين الآخرين، ويمكن اكتشاف القانون الطبيعي عن طريق العقل وحده وينطبق على جميع الناس، في حين أنّ القانون الإلهي لا يمكن اكتشافه إلا من خلال تشريع الله الخاص وينطبق فقط على أولئك الذين تم الكشف عنهم والذين يشير الله تحديدًا إلى أنّه يجب الالتزام بهم.

في نظرية لوك القانون الإلهي والقانون الطبيعي متسقان ويمكن أن يتداخلان في المحتوى لكنهما ليسا متكاملين، وبالتالي لا توجد مشكلة بالنسبة للوك إذا كان الكتاب المقدس يأمر بقانون أخلاقي أكثر صرامة من الذي يمكن اشتقاقه من القانون الطبيعي ولكن هناك مشكلة حقيقية إذا كان الكتاب المقدس يعلِّم ما يتعارض مع القانون الطبيعي، وفي الممارسة العملية تجنب لوك هذه المشكلة لأنّ التوافق مع القانون الطبيعي كان أحد المعايير التي استخدمها عند تقرير التفسير الصحيح لمقاطع الكتاب المقدس.

انتقادات على مفاهيم لوك حول القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية:

في القرن الذي سبق لوك اكتسبت لغة الحقوق الطبيعية مكانة بارزة من خلال كتابات مفكرين مثل غروتيوس وهوبز وبوفيندورف، وبينما يؤكد القانون الطبيعي على الواجبات تؤكد الحقوق الطبيعية عادة الامتيازات أو المطالبات التي يحق للفرد الحصول عليها فهناك خلاف كبير حول كيفية فهم هذه العوامل فيما يتعلق ببعضها البعض في نظرية لوك.

ليو شتراوس (1953) والعديد من أتباعه يأخذون الحقوق لتكون لها الأولوية وذهبوا إلى حد تصوير موقف لوك على أنّه مشابه بشكل أساسي لموقف هوبز، ويشيرون إلى أنّ لوك دافع عن نظرية المتعة للدوافع البشرية، وادّعى أنّه يجب أن يتفق مع هوبز حول طبيعة المصلحة الذاتية للبشر، ويزعمون أنّ لوك يعترف بالتزامات القانون الطبيعي فقط في المواقف التي لا يكون فيها حفاظنا الخاص متعارضًا مما يؤكد أيضًا أنّ حقنا في الحفاظ على أنفسنا يتفوق على أي واجبات قد تكون لدينا.

المدافعين عن فكر لوك في القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية:

على الطرف الآخر من الطيف تبنى المزيد من العلماء وجهة نظر دن (1969) وتولي (1980) وأشكرافت (1986) بأنّ القانون الطبيعي وليس الحقوق الطبيعية هو المبدأ الأساسي، وهم يعتقدون أنّه عندما شدد لوك على الحق في الحياة والحرية والملكية كان يشير في المقام الأول إلى واجباتنا تجاه الآخرين أي واجبات عدم القتل أو الاستعباد أو السرقة.

ويجادل معظم العلماء أيضًا بأنّ لوك اعترف بواجب عام للمساعدة في الحفاظ على الجنس البشري بما في ذلك واجب الإحسان لأولئك الذين ليس لديهم طريقة أخرى لكسب عيشهم، ويعتبر هؤلاء العلماء أنّ الواجبات أساسية في لوك لأنّ الحقوق موجودة لضمان قدرتنا على الوفاء بواجباتنا.

ويتخذ سيمونز 1992 موقفًا مشابهًا للمجموعة الأخيرة لكنه يدّعي أنّ الحقوق ليست مجرد الجانب الآخر من الواجبات في لوك وليست مجرد وسيلة لأداء واجباتنا، وبدلاً من ذلك تعد الحقوق والواجبات أساسية بنفس القدر لأنّ لوك يؤمن “بمنطقة قوية من اللامبالاة” حيث تحمي الحقوق قدرتنا على اتخاذ الخيارات، في حين أنّ هذه الخيارات لا يمكن أن تنتهك القانون الطبيعي فهي ليست مجرد وسيلة لتحقيق القانون الطبيعي أيضًا.

ويتساءل بريان تيرني (2014) عما إذا كان المرء بحاجة إلى إعطاء الأولوية للقانون الطبيعي أو الحق الطبيعي لأنّ كلاهما يعمل عادة كنتيجة طبيعية، ويجادل بأنّ نظريات الحقوق الطبيعية الحديثة هي تطور من مفاهيم العصور الوسطى للقانون الطبيعي والتي تضمنت أذونات للتصرف أو عدم التصرف بطرق معينة.

كانت هناك بعض المحاولات لإيجاد حل وسط بين هذه المواقف، حيث تقر نسخة مايكل زوكيرت (1994) لموقف شتراوس بوجود اختلافات أكثر بين هوبز ولوك، ولا يزال زوكيرت يشكك في صدق إيمان لوك لكنه يعتقد أنّ لوك يطور موقفًا يؤسس لحقوق الملكية في حقيقة أنّ البشر يمتلكون أنفسهم وهو ما نفاه هوبز.

قطع آدم سيجريف (2014) خطوة إلى الأمام، وجادل بأنّ التناقض بين ادعاء لوك بأنّ البشر مملوكين لله وأنّ البشر يمتلكون أنفسهم هو تناقض واضح فقط، وفي المقاطع المتعلقة بالملكية الإلهية يتحدث لوك عن البشرية ككل بينما يتحدث في المقاطع عن الملكية الذاتية عن أفراد بشريين لديهم القدرة على امتلاك الممتلكات، فلقد خلق الله البشر القادرين على التمتع بحقوق الملكية فيما يتعلق ببعضهم البعض على أساس امتلاك عملهم، وكلاهما يؤكد على الاختلافات بين استخدام لوك للحقوق الطبيعية والتقاليد السابقة للقانون الطبيعي.

هناك نقطة خلاف أخرى تتعلق بمدى اعتقاد لوك أنّ القانون الطبيعي يمكن في الواقع أن يُعرف بالعقل، وكلا من شتراوس (1953) وبيتر لاسليت على الرغم من اختلافهما الشديد في تفسيراتهما للوك بشكل عام ينظران إلى نظرية لوك للقانون الطبيعي على أنّها مليئة بالتناقضات.

في مقال عن فهم الإنسان يدافع لوك عن نظرية المعرفة الأخلاقية التي تنفي إمكانية وجود أفكار فطرية ويدعي أنّ الأخلاق قادرة على التظاهر بنفس الطريقة التي تكون بها الرياضيات، ومع ذلك لم يقم لوك في أي مكان في أي من أعماله باستنتاج كامل للقانون الطبيعي من المقدمات الأولى، وأكثر من ذلك يبدو أنّ لوك في بعض الأحيان يستأنف الأفكار الفطرية في الرسالة الثانية وفي معقولية المسيحية يعترف بأنّه لم يقم أحد مطلقًا بتطبيق كل القانون الطبيعي من العقل وحده.

ويستنتج شتراوس من هذا أنّ التناقضات موجودة لتظهر للقارئ اليقظ أنّ لوك لا يؤمن حقًا بالقانون الطبيعي على الإطلاق، ويقول لاسليت بشكل أكثر تحفظًا ببساطة أنّ لوك الفيلسوف والكاتب السياسي لوك يجب أن يكونا منفصلين جدًا.

كثير من العلماء يرفضون هذا الموقف، ويعد كل من يولتون (1958) وكولمان (1883) وأشكرافت (1987) وجرانت (1987) وسيمونز (1992) وتكنيس (1999) وإسرائيل (2013) وروسيتر (2016) وكونولي (2019) وآخرون يجادلون بأنّه لا يوجد شيء غير متسق بشكل صارم في اعتراف لوك في معقولية المسيحية.

إنّ عدم استنتاج أي شخص للقانون الطبيعي بالكامل من المبادئ الأولى لا يعني أنّه لم يتم استنتاج أي منه، والمقاطع المفترضة المتناقضة في الرسالتين بعيدة كل البعد عن كونها حاسمة، في حين أنّه من الصحيح أنّ لوك لا يقدم خصمًا في المقال فليس من الواضح أنّه كان يحاول ذلك، ومع ذلك يجب الاعتراف بأنّ لوك لم يتعامل مع موضوع القانون الطبيعي بشكل منهجي كما قد يرغب المرء، ويجب أن تحاول محاولات صياغة نظريته بمزيد من التفصيل فيما يتعلق بأساسها ومحتواها إعادة بنائها من مقاطع متفرقة في العديد من النصوص المختلفة.

الفكر التطوعي لفهم القانون الطبيعي للوك:

ولفهم موقف لوك على أساس القانون الطبيعي يجب أن يتم وضعه ضمن نقاش أكبر في نظرية القانون الطبيعي التي سبقت لوك، وما يسمى بمناقشة “الفكر التطوعي” أو “الجدل الطوعي-العقلاني” في أبسط صوره يعلن المتطوع أنّ الصواب والخطأ تحددهما إرادة الله وأننّا ملزمون بطاعة إرادة الله لمجرد أنّها إرادة الله، ويجادل الطوعي بأنّه ما لم يتم الحفاظ على هذه المواقف يصبح الله غير ضروري للأخلاق حيث يمكن تفسير كل من المحتوى والقوة الملزمة للأخلاق دون الرجوع إلى الله، يجيب المفكر بأنّ هذا الفهم يجعل الأخلاق تعسفية ويفشل في تفسير سبب التزامنا بطاعة الله.

جادل جرايدون زورزي (2019) بأنّ “الشخص” هو مصطلح علائقي للوك مما يشير إلى أنّنا سوف يحاسبنا الله على ما إذا كنا قد اتبعنا القانون.

فيما يتعلق بأسس ومحتوى القانون الطبيعي لوك ليس واضحًا تمامًا، وهناك العديد من الحالات التي يدلي فيها بتصريحات تبدو تطوعية تفيد بأنّ القانون يتطلب مشرعًا يتمتع بالسلطة، ويصر لوك أيضًا مرارًا وتكرارًا في مقالات السياسية عن قانون الطبيعة أنّ الكائنات المخلوقة عليها التزام بطاعة خالقها.

وأيضَا هناك تصريحات التي يبدو أنّها تدل على المعيار الأخلاقي الخارجي الذي يجب أن تتوافق مع الله، ومن الواضح أنّ لوك يريد أن يتجنب الإشارة إلى أنّ محتوى القانون الطبيعي تعسفي وتم اقتراح العديد من الحلول:

  • أحد الحلول التي اقترحها هرتسوغ (1985) جعل لوك مثقفًا من خلال إرساء التزامنا بطاعة الله على واجب الامتنان المسبق الذي يكون مستقلاً عن الله.
  • الخيار الثاني الذي اقترحه سيمونز (1992) هو ببساطة اعتبار لوك متطوعًا لأنّ هذا هو المكان الذي تشير إليه أغلب تصريحاته.
  • الخيار الثالث الذي اقترحه توكنيس (1999) هو معالجة مسألة التطوع على أنّها تتكون من جزأين مختلفين أسباب ومحتوى.
    ومن وجهة النظر هذه كان لوك متطوعًا بالفعل فيما يتعلق بجزء السؤال “لماذا يجب أن نطيع قانون الطبيعة؟” حيث اعتقد لوك أنّ العقل بصرف النظر عن إرادة الرئيس يمكن أن يكون استشاريًا فقط، أما فيما يتعلق بالمحتوى فيجب أن يكون العقل الإلهي والعقل البشري متشابهين بدرجة كافية بحيث يمكن للبشر أن يفكروا فيما يشاء الله على الأرجح، ويعتبر لوك أنّه منذ أن خلقنا الله بعقل من أجل اتباع إرادة الله فإنّ العقل البشري والعقل الإلهي متشابهان بدرجة كافية بحيث لا يبدو القانون الطبيعي تعسفيًا بالنسبة لنا.

المفكرون ونظرتهم لجون لوك في فلسفته السياسية:

يجب على المهتمين بالأهمية المعاصرة لنظرية لوك السياسية مواجهة جوانبها اللاهوتية، وقد يجعل شتراوس نظرية لوك مناسبة من خلال الادعاء بأنّ الأبعاد اللاهوتية لفكره هي في الأساس بلاغية، حيث كانوا “غطاء” لحمايته من الاضطهاد من قبل السلطات الدينية في عصره، آخرون مثل دن (1969) و ستانتون (2018) يعتبرون أنّ لوك له صلة محدودة بالسياسة المعاصرة على وجه التحديد لأنّ الكثير من حججه تعتمد على الافتراضات الدينية التي لم تعد مشتركة على نطاق واسع.

وحاول بعض المؤلفين مثل سيمونز (1992) و فيرنون (1997) فصل أسس حجة لوك عن جوانب أخرى منها، سيمونز على سبيل المثال يجادل بأنّ فكر لوك مفرط في التحديد ويحتوي على حجج دينية وعلمانية، وهو يدّعي أنّ القانون الأساسي للطبيعة بالنسبة للوك هو “الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الجنس البشري”، وفي بعض الأحيان كما يدّعي يقدم لوك هذا المبدأ بمصطلحات القواعد العواقبية حيث إنّه المبدأ الذي نستخدمه لتحديد الحقوق والواجبات الأكثر تحديدًا التي لها جميعًا.

يستكشف والدرون (2002) الادعاء المعاكس بأن لاهوت لوك يوفر في الواقع أساسًا أكثر صلابة لفرضيته عن المساواة السياسية مما تفعله المناهج العلمانية المعاصرة التي تميل ببساطة إلى تأكيد المساواة.

محتوى القانون الطبيعي لدى لوك:

فيما يتعلق بالمحتوى المحدد للقانون الطبيعي لا يقدم لوك أبدًا بيانًا شاملاً لما يتطلبه ففي الأطروحتين ذكر لوك كثيرًا أنّ القانون الأساسي للطبيعة هو الحفاظ على البشرية قدر الإمكان، ويجادل سيمونز (1992) أنّه في مقالتين يعرض لوك ما يلي:

  1. واجب الحفاظ على الذات.
  2. واجب الحفاظ على الآخرين عندما لا يتعارض الحفاظ على الذات.
  3. واجب عدم سلب حياة الشخص آخر.
  4. واجب عدم التصرف بطريقة “تميل إلى تدمير” الآخرين.

يميل المترجمون التحرريون للوك إلى التقليل من أهمية واجبات النوع 1 و 2، ويقدم لوك قائمة أكثر شمولاً في كتابه السابق وغير المنشور في حياته مقالات عن قانون الطبيعة، ومن المثير للاهتمام أنّ لوك يتضمن هنا المديح وشرف الإله كما هو مطلوب بموجب القانون الطبيعي بالإضافة إلى ما يمكن أن نسميه صفات الشخصية الجيدة.


شارك المقالة: