الأفكار الفلسفية لكتاب العلم الجديد للفيلسوف فيكو

اقرأ في هذا المقال


تم دمج العديد من موضوعات الأعمال المبكرة لفيكو اللغة والحكمة والتاريخ والحقيقة والسببية وعلم اللغة والبلاغة والفلسفة والشعر ونقاط القوة والضعف النسبية للتعلم القديم والحديث ففي عمل فيكو الرئيسي وتلقيه العلاج الكامل تم نشر (The New Science) لأول مرة في عام 1725 طبعة عُرفت لاحقًا باسم (Scienza Nuova Prima أو First New Science) ومرة ​​أخرى في نسخة ثانية تمت إعادة كتابتها إلى حد كبير بعد خمس سنوات.

نظرة عامة في فلسفة كتاب العلم الجديد:

ظهر مخطط العمل الذي خطط أن يطلق عليه العلم الجديد (Scienza nuova) لأول مرة في 1720-1721 في أطروحة قانونية مكونة من مجلدين عن “القانون العالمي”، وكُتب المخطط التفصيلي باللغة اللاتينية وظهر في فصل بعنوان (Nova Scientia Tentatur – محاولة العلم الجديد).

كان من المقرر تطوير الأفكار الموضحة هنا بالكامل في نسخة حيث وافق الكاردينال القوي كورسيني البابا المستقبلي كليمنت الثاني عشر على رعايتها، ووفقًا للممارسة المعاصرة كان هذا يعني أنّه سيتحمل تكاليف النشر، وفي اللحظة الأخيرة انسحب الكاردينال متذرعًا بصعوبات مالية، ولكن من المحتمل مع ذلك أن يكون الكاردينال قد انزعج من بعض مقترحات فيكو والتي كانت جريئة لتلك الفترة مثل فكرة أنّ المجتمع البشري مر بمرحلة “وحشية” وأنّه من الممكن للمجتمع أن يعود إلى هذه البدائية البربرية التي لا يمتلك فيها الرجال سوى شكل غامض من العقل.

يتكون النص من نظرة عامة (فكرة العمل) كصيغة لتفسير واجهة تصور شخصية أنثوية (ميتافيزيقيا) تقف على كرة أرضية وتفكر في مثلث مضيء يحتوي على عين الله أو العناية الإلهية، ويوجد أدناه تمثال لهوميروس يمثل أصول المجتمع البشري في “الحكمة الشعرية”، ويتبع ذلك خمسة كتب وخاتمة يحدد أولها (تأسيس المبادئ) الطريقة التي يبني عليها فيكو تاريخ المجتمع المدني منذ بداياته الأولى في حالة الطبيعة (stato di natura) إلى المعاصرة من مظاهر القرن السابع عشر في أوروبا.

فلسفة العلم والمعرفة لدى فيكو:

في العمل يطور فيكو بوعي مفهومه عن العلوم العلم أو المعرفة في مقابل فلسفة ديكارت المهيمنة آنذاك بتأكيدها على الأفكار الواضحة والمتميزة وهي أبسط عناصر الفكر التي من خلالها يمكن لكل المعرفة والتي يعتقد الديكارتيون أن يتم اشتقاقها مسبقًا عن طريق القواعد الاستنتاجية، وكما جادل فيكو بالفعل فإنّ إحدى عواقب هذه الطريقة الافتراضية الاستنتاجية وعيوبها هي أنّها تجعل الظواهر التي لا يمكن التعبير عنها منطقيًا أو رياضيًا كأوهام من نوع أو آخر.

وهذا لا ينطبق فقط على بيانات المعنى والتجربة النفسية ولكن أيضًا على الأدلة غير القابلة للقياس التي تشكل العلوم الإنسانية، وبالاعتماد على مبدأ الواقع الفعلي الذي تم وصفه لأول مرة في (العتيق- De Antiquissima) يجادل فيكو ضد الفلسفة الديكارتية بأنّ المعرفة الكاملة لأي شيء تتضمن اكتشاف كيف أصبح ما هو عليه باعتباره نتاجًا للفعل البشري و “الخاصية الرئيسية” للبشر أي أن تكون اجتماعيًا.

ويؤكد فيكو أنّ اختزال جميع الحقائق إلى الشكل النموذجي الظاهري للمعرفة الرياضية هو شكل من الغرور والذي ينشأ من حقيقة أنّ الإنسان يجعل نفسه مقياس كل الأشياء وأنّه عندما لا يستطيع الرجال تكوين فكرة عن أشياء بعيدة وغير معروفة فإنّهم يحكمون عليها من خلال ما هو مألوف ومتوفر.

يجادل فيكو بأنّ الاعتراف بهذا القيد هو إدراك أنّ الظواهر لا يمكن معرفتها إلّا من خلال أصولها أو من خلال الأسباب لأنّ المذاهب يجب أن تأخذ بدايتها من تلك الأمور التي تعالجها حيث أن الحقيقة نزلت الى البشر مغلفة بالباطل كما يقول: “وهو عمل عظيم أن يستعيد العلم أسس الحقيقة التي مع مرور السنين والتغيرات في اللغة والعادات قد نزلت إلينا مغلفة بالباطل”.

ويؤدي كشف النقاب عن هذا الباطل إلى “الحكمة” وهي “لا شيء سوى علم استخدام الأشياء كما تمليها طبيعتها”، وبالنظر إلى حقيقة أنّ (verum ipsum- الحقيقة هي المصنوعة) أو أنّ شيئًا ما صحيحًا لأنّه من صنع العلم فإنّ كلاهما يضع المعرفة في كل مكان على أنّها مهمتها وطريقة لتحقيقها، أو معبراً عنه بعبارات أخرى فإنّ محتوى العلم مطابق لتطور ذلك المشهد نفسه.

ومع ذلك فإنّ التحدي يكمن في تطوير هذا العلم بطريقة لفهم حقائق العالم البشري دون اختزالها إلى مجرد صدفة أو تفسير ترتيبها عن طريق مبادئ تأملية من النوع الذي تولده الميتافيزيقيا التقليدية، ويجب جعلها مفهومة أي دون اختزالها كما فعل الديكارتيون إلى حالة الزوال.

وكما يلبي فيكو هذا الطلب من خلال التمييز في بداية (The New Science) بين “الحقيقي” و “المؤكد”:

  • الحقيقي: هو موضوع المعرفة (scienza) لأنه عالمي وأبدي.
  • المؤكد: مرتبط بالوعي البشري وخاص ومتفرد.

وينتج عن هذا زوجان من المصطلحات ( il vero – scienza و il certo – coscienza) والتي تشكل بدورها تفسيرات الفلسفة وعلم اللغة “التاريخ” على نطاق واسع، فبمجرد أن يتم دمجهم فإنهّم يشكلون عقيدة تنتج معرفة كاملة بالحقائق حيث تعني “المعرفة” بالمعنى الفيتشاني واستيعاب كل من ضرورة الشؤون الإنسانية تظهر في الروابط السببية بين الأحداث العشوائية بخلاف ذلك وصدور الأحداث التي تشكل محتوى السلاسل السببية وتنتج الفلسفة الحقيقة الكونية وتنتج فقه اللغة اليقين الفردي.

يشكل نص “العلم الجديد” بعد ذلك محاولة فيكو لتطوير منهج يأتي في حد ذاته في سياق تطبيقه على التجربة الإنسانية وهذا يأخذ شكل تاريخ المجتمع المدني وتطوره من خلال تقدم الحرب والسلام والقانون والنظام الاجتماعي والتجارة والحكومة، ويتضمن إنجاز هذه المهمة تتبع المجتمع البشري إلى أصوله من أجل الكشف عن طبيعة بشرية مشتركة ونمط جيني عالمي تعمل من خلاله جميع الأمم.

يرى فيكو أنّ هذه الطبيعة المشتركة تنعكس في اللغة التي تم تصورها كمخزن للعادات حيث تتراكم حكمة العصور المتعاقبة ويفترضها مسبقًا الأجيال اللاحقة في شكل حسي مشترك أو قاموس عقلي، ويعرّف فيكو هذا الحس السليم بأنّه: حكم بدون تفكير ويتشارك فيه طبقة بأكملها وشعب بأكمله وأمة بأكملها أو الجنس البشري بأكمله، وهي متاحة أيضًا للفيلسوف الذي من خلال فك رموز محتوياته وبالتالي استعادة محتواها ويمكنه اكتشاف تاريخ أبدي مثالي اجتازه تاريخ جميع الأمم عبر الزمن.

فلسفة الحكمة لدى فيكو:

وهكذا يدعي فيكو أنّه اكتشف نوعين من الحكمة (شعري وفلسفي) ويقابلان الطبيعة المزدوجة للإنسان (الحس والفكر) والمتمثلة في إبداعات الشعراء اللاهوتيين والفلاسفة، وتنشأ المؤسسات أولاً من فورية تجربة الحس والشعور الصافي والفضول والتعجب والخوف والخرافات وقدرة البشر الشبيهة بالطفل على تقليد العالم من حولهم وتجسيده، وبما أنّ “الرجال في طفولتهم كانوا بطبيعتهم شعراء سامين” فإنّ أسباب فيكو يجب أن تكون الأمم “شعرية في بدايتها”، لذلك يمكن اكتشاف أصلهم ومسارهم من خلال إعادة تكوين أو تذكر “الحقيقة الشعرية” أو “الحقيقة الميتافيزيقية” التي تكمن وراءها.

يتجلى هذا في المقام الأول في الحكاية والأساطير وبنية اللغات المبكرة وتشكيلات الدين متعدد الآلهة، وهكذا فإنّ أنظمة المعتقدات في المجتمعات المبكرة تتميز بـ “الميتافيزيقيا الشعرية” التي “تبحث عن براهينها ليس في العالم الخارجي بل في إطار تعديلات عقل من يتأملها” والمنطق الشعري الذي من خلاله يتم التعبير عن إبداعات هذه الميتافيزيقيا.

ويؤكد فيكو أنّ الميتافيزيقيا من هذا النوع ليست عقلانية وتجريدية مثل تلك التي لدى الرجال المتعلمين الآن ولكنها محسوسة ومتخيلة من قبل الرجال بدون قوة تصديق، وهذه الميتافيزيقيا كانت شعرهم ملكة ولدت معهم، حيث ولدوا من جهلهم بالأسباب وعن الجهل أم العجب جعلوا كل شيء رائعًا للرجال الذين كانوا يجهلون كل شيء، والتي كانت غير قادر على تكوين مفاهيم طبقية منطقية للأشياء وهي سمة من سمات العقل البشري لم تتحقق إلا في عصر الرجال فكان لدى الناس حاجة طبيعية لخلق شخصيات شعرية أي مفاهيم فئة خيالية أو عامة، وذلك بالنسبة لنماذج معينة أو صور مثالية للتقليل من كل أنواع المعينة التي تشبهها.

ومع تطور ملكة العقل ونموها تضعف قوة الخيال التي نمت منها الأشكال الأولى للمجتمع البشري وتفسح المجال أخيرًا لقوة التفكير، وتتفوق القوى المعرفية للبشر على قدراتهم الإبداعية ويحل العقل محل الشعر باعتباره الطريقة الأساسية لفهم العالم، ويحدد هذا عمر الرجال مما يجعل الفلسفة حسب أسباب فيكو تطورًا حديثًا نسبيًا في التاريخ يظهر كما حدث بعد حوالي ألفي عام من تأسيس الأمم العشائرية.

نظرًا لأنّ التاريخ نفسه من وجهة نظر فيكو هو مظهر من مظاهر العناية الإلهية في العالم فإنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى والصعود الثابت للعقل على الخيال يمثل تقدمًا تدريجيًا للحضارة وتحسنًا نوعيًا من أشكال أبسط إلى أكثر تعقيدًا من الأشكال المنظمة الاجتماعية ويصف فيكو هذه الحركة بأنّها ضرورة الطبيعة، مما يعني أنّه مع مرور الوقت يميل البشر والمجتمعات بشكل متزايد نحو تحقيق إمكاناتهم الكاملة.

من البدايات الفظة تتحول العاطفة غير الموجهة إلى فضيلة وتخضع الحالة الوحشية في المجتمع المبكر لسيادة القانون وتحل الفلسفة محل المشاعر الدينية، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الانتقال من الوعي الشعري إلى الوعي العقلاني يمكن الأفراد المتأملين – الفيلسوف أي في شكل فيكو من استعادة جسد التاريخ العالمي من خصوصية الأحداث العشوائية الظاهرة وهذه حقيقة يشهد عليها شكل ومحتوى “العلم الجديد” نفسه.


شارك المقالة: