المزيج الإبداعي في الشعر العباسي والفن التشكيلي

اقرأ في هذا المقال


رافق التطور الذي شهدته البلاد في الفترة العباسية الكثير من التقدم والازدهار الذي عمَّ المجتمع وشمل كافة المجالات المختلفة الفكرية والاجتماعية وغيرها، ومع تقدم الأدب أصبح الشعر طريقة لتوضيح هذا التطور وأبرز العوامل التي أظهرت هذا التقدم الفن المعماري، حيث تزينت من خلاله القصور والمنازل وفي هذا المقال سنوضح هذا المزيج الرائع بين الكلام الموزون العباسي والفن التشكيلي في ذلك الوقت.

الفن التشكيلي في الشعر العباسي

إن المتمعن في الكلام المنظوم العباسي يجده يعج بالفنون التشكيلية العديدة حيث يستمد منها تعابيره بطريقة تعكس جمالها وبهائها على نفس المتلقي، ويساعده على فهم النماذج الأدبية العباسية بواسطتها ويعتمد في قراءتها على الفنون التشكيلية عن طريق وجهتين: 

1- التصوير: وهذا الفن يهتم بتشكيل الألوان والخطوط على رقعة مستوية وامتزج الكلام المنظوم بالتصوير امتزاجًا كبيرًا منذ الأزل، ويرجع سبب هذا التوافق والترابط إلى دوافع عديدة فالشّعر وصف معبر وناطق، والتصوير كلام منظوم متحدث.

وقد استعان الكلام المنظوم بالتصوير عن طريق الحروف وذلك بواسطة انسجام النص مع اللوحة التصويرية فهما إبدَاعان قريبان من بعضهما يعبران عن الجمال كلاً بطريقته الخاصة، فالشعر يرتكز على الحيز الخيالي أما التصوير قائم على الحيز المكاني.

ازدهر فن التصوير في ذاك الوقت بشكل كبير بسبب عدة عوامل من أبرزها حياة الترف والرفاهية التي سادت في البلاد مما دفع الأثرياء إلى تزيين قصورهم ومنازلهم بالزخارف المصورة والثياب المزركشة بالكثير من الصور.

أصبح التصوير والزخرفة من أساليب الزينة ولقد عمَّ البلاد وأصبح رواد التصوير يتدفقون على القصور من أجل التكسب إلى جانب توضيح وإبراز مشاعر داخلية من خلاله، وينبع الرابط بين الكلام المنظوم والتصوير فالشّعر يوضح دلالات الجمال في حياة الإنسان ويغطي جميع أساليب الفكر المتطور.

ومن هنا يمكننا القول أن الأدب تعبيرًا يركز على أساس الفكرة سواء أكانت حسية أو معنوية، ويمكننا أن نرى المحاولات التصويرة في الأدب من خلال وصفهم لساحات الوغى وتصويرهم الأفعال البطولية وتوثيقها، ومن هذه الصور ما وجد في مقطوعات أبو تمام في مدحه للمعتصم وتصوير نصره على الروم من خلال مشاهد المعركة إذ يقول:

لَقَد تَرَكتَ أَميرَ المُؤمِنينَ بِها

لِلنارِ يَوماً ذَليلَ الصَخرِ وَالخَشَبِ

غادَرتَ فيها بَهيمَ اللَيلِ وَهوَ ضُحىً

يَشُلُّهُ وَسطَها صُبحٌ مِنَ اللَهَبِ

حَتّى كَأَنَّ جَلابيبَ الدُجى رَغِبَت

عَن لَونِها وَكَأَنَّ الشَمسَ لَم تَغِبِ

ضَوءٌ مِنَ النارِ وَالظَلماءِ عاكِفَةٌ

وَظُلمَةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ

كما نرى الفن التصويري في مقطوعة المتنبي عند مدحه الحمداني عندما أسس ثغر الحدث في مواجهة الروم في معركة شديدة حيث نظم:

هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَها

وَتَعلَمُ أَيُّ الساقِيَينِ الغَمائِمُ

سَقَتها الغَمامُ الغُرُّ قَبلَ نُزولِهِ

فَلَمّا دَنا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ

بَناها فَأَعلى وَالقَنا تَقرَعُ القَنا

وَمَوجُ المَنايا حَولَها مُتَلاطِمُ

وفي الأبيات السابقة نلحظ أن المتنبي وصف الحرب وصورها مثل لوحة رسمت أمام أنظارنا وهناك أدباء في ذلك الوقت عملوا على نقل لوحات حقيقية بواسطة الكلام المنظوم وخصوصًا بعد الاهتمام الكبير بفن التصوير، حيث ظهرت آداب نظمت بتأثير لوحات منقوشة ولقد سميت بمقطوعات الصورة التي تعج بالجمال والروعة والإتقان ومن ذلك صور أبو نواس حين قال:

أَقَمنا بِها يَوماً وَيَوماً وَثالِثاً

وَيَوماً لَهُ يَومُ التَرَحُّلِ خامِسُ

تُدارُ عَلَينا الراحُ في عَسجَدِيَّةٍ

حَبَتها بِأَلوانِ التَصاويرِ فارِسُ

قَرارَتُها كِسرى وَفي جَنَباتِها

مَهاً تَدَّريها بِالقِسِيِّ الفَوارِسُ

كما شاهدنا في الأبيات السابقة فقد عمِد أبو نواس إلى تصوير أنماط المعيشة في تلك الفترة بطريقة السرد، حيث تناول فيه موضوع العبث الذي عمَّ في البلاد بطريقة ملفتة للانتباه بعد الاندماج بين العرب والعجم ومثال آخر على مقطوعة الصورة أبيات البحتري التي صور من خلالها إيوان كسرى حيث ردد:

فَكَأَنَّ الجِرمازَ مِن عَدَمِ الأُن

سِ وَإِخلالِهِ بَنِيَّةُ رَمسِ

لَو تَراهُ عَلِمتَ أَنَّ اللَيالي

جَعَلَت فيهِ مَأتَماً بَعدَ عُرسِ

وَهوَ يُنبيكَ عَن عَجائِبِ قَومٍ

لا يُشابُ البَيانُ فيهِم بِلَبسِ

2- العمارة: تُعدُّ نوع آخر من الفنون التشكيلية ويجمعه بالشعر علاقة قوية وخصوصًا في الفترة العباسية، حيث لاقت العمارة اهتمام واضح في ذلك الوقت نتيجة لحياة الرفاهية التي عمّت البلاد أيضًا بسبب دخول العجم الذين اشتهروا بهذا الفن إلى الخلافة العباسية.

لقد تأثر الأدب بالعمارة والزخارف المتنوعة فأصبح يعج بالصور التي تصف هذا الإبداع ومنها قول ابن عقيل واصفًا قصور مدينة بغداد وزخارفها:

سقياً لتلك القصور الشاهقات وما

تخفي من البقر الأنسية العين

تستن دجلة فيما بينها فترى

دهم السفين تعالى كالبراذين

مناظر ذات أبواب مفتحة

أنيقة بزخارف وتزيين

كما عمد رواد الأدب إلى وصف الأبنية والقصور العظيمة وذكر خصائصها ومدى روعتها وجمالها بواسطة الوصف الممزوج بالمحسنات البديعية والبيانية، التي تعد بمثابة الزخارف التي زادت أدبهم جمالاً ومثال على هذا الأدب ما نظمه ابن المعتز مصورًا قصر الثريا:

حَــلَلتَ الثُــرَيّــا خَــيــرَ دارٍ وَمَـنـزِلٍ

فَـلا زالَ مَـعـمـوراً وَبـورِكَ مِـن قَـصـرِ

فَـلَيـسَ لَهُ فـيـمـا بَـنـى النـاسُ مُشبَهٌ

وَلا مـا بَـناهُ الجِنُّ في سالِفِ الدَه

رِوَمــا زالَ يَــرعــاهُ الإِمــامُ بِــرَأيِهِ

وَبِـالعُـزِّ وَالتَـقـديمِ وَالنَهيِ وَالأَمرِ

فَـتَـمَّ فَـمـا فـي الحُـسـنِ شَـيـءٌ يُـريدُهُ

لِســانٌ وَلا قَــلبٌ بِــقَــولٍ وَلا فِــكــرِ

كما نلاحظ أن الأدباء في ذاك الوقت قد أسهبوا في وصف تلك المنازل وما تحتويه من معالم الجمال والبهاء، ونرى البحتري قد دمج في مقطوعاته التي أثنى فيها المتوكل بين الثناء وذكر جمال القصور التي أنشأها حيث يقول:

رُفِعَت لِمُخترِقِ الرِياحِ سُموكُهُ

وَزَهَت عَجائِبُ حُسنِهِ المُتَخايِلِ

وَكَأَنَّ حيطانَ الزُجاجِ بِجَوِّهِ

لُجَجٌ يَمُجنَ عَلى جُنوبِ سَواحِلِ

وَكَأَنَّ تَفويفَ الرُخامِ إِذا التَقى

تَأليفُهُ بِالمَنظَرِ المُتَقابِلِ

حُبُكُ الغَمامِ رُصِفنَ بَينَ مُنَمَّرٍ

وَمُسَيَّرٍ وَمُقارِبٍ وَمُشاكِلِ

3- الزخرفة: من أهم الفنون التشكيلية الإسلامية العربية وتفرد في ذاك الوقت بالعديد من الخصائص وله مكانة مرموقة، ولقد أنفق الحكام الكثير من الأموال في سبيل زخرفة قصورهم مثلما فعل المتوكل عند بناء قصوره، وقام على توجيه الأدباء إلى وصف جمال هذه المعمار وما شمله من زخارف ونقوش ومنهم علي بن الجهم حيث نظم:

ما زِلتُ أَسمَعُ أَنَّ المُلوكَ

تَبني عَلى قَدرِ أَخطارِها

وَأَعلَمُ أَنَّ عُقولَ الرِجا

لِ يُقضى عَلَيها بِآثارِها

فَلِلرومِ ما شادَهُ الأَوَّلونَ

وَلِلفُرسِ مَأثورُ أَحرارِها

وفي النهاية نستنتج إن الأدب العباسي يعج بالإبداع التشكيلي المتنوع والذي من خلاله يستمد صوره وتعابيره بطريقة تعكس جماله وروعته، وقد تطور الفن التشكيلي في ذاك الوقت نتيجة حياة الرفاهية التي عمت البلاد وانتشار القصور المزخرفة التي تأثر بها رواد الأدب وراحوا يصفونها في مقطوعاتِهم كالمُتنبي والبحتري وغيرهم.


شارك المقالة: