في هذين العقدين قدمت ونشرت الفيلسوفة حنة أرندت خلالهما العديد من والكتب والمقالات الفلسفية والسياسية، التي تنوعت فيها في مناقشة قضايا سياسية مختلفة من الشمولية والحرية والتفكير والعمل والحكم وغيرها، ومن مثل هذه الأعمال كتاب الحالة البشرية بين الماضي والمستقبل والرجال في الأوقات المظلمة وفي الثورة وأيخمان في القدس بالإضافة إلى عدد من المقالات.
كتاب أرنت أصل الشمولية:
من الواضح أنّ أول عمل رئيسي لأرندت وهو أصل الشمولية (The Origins of Totalitarianism) والذي نُشر عام 1951 هو رد فعل على الأحداث المدمرة في عصرها، من مثل صعود ألمانياالنازية والمصير الكارثي ليهود أوروبا على يديها وصعود الستالينية السوفيتية وإبادة ملايين الفلاحين، ناهيك عن حرية التفكير المثقف والكتاب والفنانين والعلماء والنشطاء السياسيين.
فقد أصرت أرنت على أنّ مظاهر الشر السياسي هذه لا يمكن فهمها على أنّها مجرد امتدادات في نطاق أو نطاق السوابق الموجودة بالفعل، بل إنّها تمثل شكلًا جديدًا من الحكومة تمامًا، وهو شكل مبني على الإرهاب والخيال الأيديولوجي، حيث استخدمت الطغاة الأكبر سناً الإرهاب كأداة للوصول إلى السلطة أو إدامتها، كما أظهرت الأنظمة الشمولية الحديثة القليل من العقلانية الاستراتيجية في استخدامها للإرهاب، وبالأحرى لم يعد الإرهاب وسيلة لتحقيق غاية سياسية بل غاية في حد ذاته.
تم تبرير ضرورتها الآن باللجوء إلى قوانين التاريخ المفترضة، من مثل الانتصار الحتمي للمجتمع اللاطبقي، أو الطبيعة مثل حتمية الحرب بين الأجناس المختارة والمنحطة الأخر.
بالنسبة لأرندت فإنّ الجاذبية الشعبية للأيديولوجيات الشمولية بقدرتها على حشد السكان لتنفيذ ما يريدون، وقد استندت إلى تدمير السياقات المنظمة والمستقرة التي عاش فيها الناس ذات يوم، ونتيجة تأثير الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير وانتشار الاضطرابات الثورية، فقد تركت الناس مفتوحة لإصدار فكرة واحدة واضحة لا لبس فيها من شأنها أن تحدد المسؤولية عن المشاكل، وتشير إلى مسار واضح من شأنه أن يؤمن المستقبل ضد انعدام الأمن والخطر.
وقدمت الأيديولوجيات الشمولية مثل هذه الإجابات بزعم اكتشاف مفتاح التاريخ الذي يمكن من خلاله تفسير أحداث الماضي والحاضر، وتأمين المستقبل من خلال القيام بعطاءات التاريخ أو الطبيعة، وبناءً على ذلك فإنّ قابلية السكان الأوروبيين للأفكار الشمولية كانت نتيجة لسلسلة من الأمراض التي أدت إلى تآكل المجال العام أو السياسي كمساحة للحرية الفردية والحرية.
وقد تضمنت هذه الأمراض توسع الرأسمال الإمبريالي بإدارته الإدارية للقمع الاستعماري والإضرار بالدولة من قبل البرجوازية كأداة لتعزيز مصالحها القطاعية، وهذا بدوره أدى إلى نزع الشرعية عن المؤسسات السياسية، وضمور مبادئ المواطنة والإجماع التشاوري الذي كان قلب المشروع السياسي الديمقراطي.
وبالتالي كان من المفترض أن يُفهم صعود الشمولية في ضوء تراكم الأمراض التي قوضت شروط إمكانية وجود حياة عامة قابلة للحياة يمكن أن توحد المواطنين، مع الحفاظ في الوقت نفسه على حريتهم وتفردهم، وهو الشرط الذي أشارت إليه أرنت باسم التعددية.
في هذا العمل المبكر من الممكن تمييز عدد من الموضوعات المتكررة التي من شأنها تنظيم كتابات أرندت السياسية طوال حياتها على سبيل المثال:
1- التحقيق في ظروف إمكانية حياة عامة إنسانية وديمقراطية.
2- القوى التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي أصبحت تهددها.
3- العلاقة المتضاربة بين المصالح الخاصة والمنفعة العامة.
4- تأثير دورات الإنتاج المكثفة.
5- الاستهلاك الذي زعزع استقرار السياق العالمي المشترك للحياة البشرية وما إلى ذلك.
لن تظهر هذه الموضوعات مرارًا وتكرارًا في عمل أرنت اللاحق فحسب، بل سيتم تطويرها من الناحية المفاهيمية من خلال تطوير الفروق الرئيسية، وذلك من أجل تحديد طبيعة الوجود السياسي والقدرات التي تمارس في إنتاجه والحفاظ عليه.
كتاب أرنت الحالة البشرية:
قامت أرنت بعمل إنشاء شروط إمكانية التجربة السياسية على عكس المجالات الأخرى للنشاط البشري، في عملها الرئيسي التالي الحالة البشرية (The Human Condition) في عام 1958، ففي هذا العمل أجرت تحقيقًا تاريخيًا فلسفيًا شاملاً عاد إلى أصول كل من الديمقراطية والفلسفة السياسية في العالم اليوناني القديم، وجلبت هذه المفاهيم الأصلية للحياة السياسية للتأثير على ما اعتبرته أرنت ضمورًا وخسوفًا في العصر الحديث.
وقد كان هدفها هو اقتراح إعادة بناء ظاهرية لجوانب مختلفة من النشاط البشري، من أجل تمييز نوع العمل والمشاركة الذي يتوافق مع الوجود السياسي الحالي بشكل أفضل، من خلال القيام بذلك فإنّها تقدم نقدًا صارمًا للفلسفة السياسية التقليدية، والمخاطر التي تمثلها على المجال السياسي كمجال مستقل للممارسة الإنسانية.
يهتم الشرط البشري بشكل أساسي بمشكلة إعادة التأكيد على السياسة باعتبارها رزمة قيمة من العمل البشري والتطبيق العملي وعالم المظاهر، وتجادل أرنت بأنّ التقليد الفلسفي الغربي قد قلل من قيمة عالم الفعل البشري الذي يهتم بالمظاهر (الحياة النشطة)، وأخضعه لحياة التأمل التي تهتم بالجواهر والأبدي (الحياة التأملية).
فالجاني الرئيسي هو أفلاطون الذي تُخضع الميتافيزيقيا أفعاله وظهوره للعالم الأبدي للأفكار، حيث تبدأ قصة الكهف في الجمهورية بتقليد الفلسفة السياسية، ويصف أفلاطون هنا عالم الشؤون الإنسانية بمصطلحات الظلال والظلام، ويوجه أولئك الذين يتطلعون إلى الحقيقة للابتعاد عنها لصالح السماء الصافية للأفكار الأبدية، وهذا التسلسل الهرمي الميتافيزيقي يوضع الثوريا (theôria) فوق التطبيق العملي والإبستيم (epistêmê) على مجرد دوكسا (doxa).
يخضع عالم الفعل والمظهر (بما في ذلك السياسي) إلى نهايات الأفكار ويصبح وسيلة لتحقيقها كما تم الكشف عنها للفيلسوف الذي يعيش في السير الثيوريتيكوس (theôretikos)، وفي كتاب الحالة البشرية والأعمال اللاحقة كانت المهمة التي حددتها أرندت هي حفظ الفعل والمظهر، ومعها الحياة المشتركة للقيم السياسية والرأي من نهب الفلاسفة، وذلك من خلال التفصيل المنتظم لما يمكن أن يقال عن هذا النشاط الحيوي تأمل في إعادة حياة العمل العام والسياسي إلى قمة الحاجات والأهداف البشرية.
كتاب أرنت على الثورة:
من المعالجة التاريخية الفلسفية للسياسة في كتاب الحالة البشرية، قد يبدو أنّ السياسة الأصيلة بالنسبة لأرنت مثل حرية التصرف والتداول العام والإفصاح قد فقدت بشكل حاسم في العصر الحديث، ومع ذلك في عملها الرئيسي التالي على الثورة (On Revolution) في عام 1961، تأخذها في إعادة التفكير في المفاهيم السياسية وتطبقها في العصر الحديث مع نتائج متناقضة.
تتعامل أرنت مع التفسيرات الليبرالية والماركسية للثورات السياسية الحديثة (مثل الفرنسية والأمريكية) ضد الليبراليين، ويجادل الخلاف في الادعاء بأنّ هذه الثورات كانت معنية في المقام الأول بتأسيس حكومة محدودة من شأنها أن تفسح المجال للحرية الفردية بعيدًا عن متناول الدولة.
وضد التفسيرات الماركسية للثورة الفرنسية تعترض على الادعاء بأنّ الدافع وراءها هو المسألة الاجتماعية، وهي محاولة شعبية للتغلب على الفقر والإقصاء من قبل الكثيرين ضد القلة الذين احتكروا الثروة في النظام القديم، وبدلاً من ذلك تدعي أرنت أن ما يميز هذه الثورات الحديثة هو أنّها تُظهر (وإن كان ذلك بشكل عابر) ممارسة القدرات السياسية الأساسية، أي قدرة الأفراد على العمل معًا على أساس أهدافهم المشتركة المتفق عليها بشكل متبادل، من أجل إنشاء مساحة عامة ملموسة من حرية.
في هذا التأسيس يبدو أنّه محاولة إنشاء فضاء عام ومؤسسي للحرية المدنية والمشاركة، وهو ما يميز هذه اللحظات الثورية كنماذج للسياسة لا غنى عنها.
ومع ذلك ترى أرنت أنّ الثورتين الفرنسية والأمريكية فشلت في نهاية المطاف في إنشاء مساحة سياسية دائمة يمكن فيها ممارسة الأنشطة الجارية للتداول المشترك واتخاذ القرار والعمل المنسق، وفي حالة الثورة الفرنسية فإنّ إخضاع الحرية السياسية لمسائل إدارة الرفاهية (المسألة الاجتماعية)، من شأنه أن يقلل المؤسسات السياسية إلى إدارة توزيع السلع والموارد.
في غضون ذلك أفلتت الثورة الأمريكية من هذا المصير، وتمكنت عن طريق الدستور من تأسيس مجتمع سياسي على أساس الموافقة على التعليقات، ومع ذلك فقد اعتبرت ذلك نجاحًا جزئيًا ومحدودًا فقط، وفشلت أمريكا في خلق مساحة مؤسسية يمكن للمواطنين من خلالها المشاركة في الحكومة، حيث يمكنهم ممارسة هذه القدرات المشتركة للتعبير الحر والإقناع والحكم على الوجود السياسي.
فالمواطن العادي رغم حمايته من الممارسة التعسفية للسلطة من خلال الضوابط والتوازنات الدستورية، لم يعد مشاركًا في الحكم والسلطة، وبالتالي أصبح محرومًا من إمكانية ممارسة صلاحياته السياسية.