في كتابها الصادر عام 1947 بعنوان أخلاقيات الغموض تحدد الفيلسوفة سيمون دو بوفوار الأخلاق الوجودية، حيث كانت مستوحاة من وعد الفيلسوف جان بول سارتر بالقيام بذلك في نهاية كتابه الوجود والعدم في عام 1943، وهو مشروع كتب عنه العديد من الملاحظات ولكنه لم يكمله أبدًا، ويعتبر كتاب أخلاقيات الغموض أحد أكثر أعمال دو بوفوار الفلسفية إثارة للاهتمام والأصالة، ولكن هل النظرية التي يحتويها يمكن الدفاع عنها؟ وهل تعطينا إرشادات عملية لكيفية عيش حياتنا؟
تحليل الطفولة:
من أجل توضيح مدى تعقيد الحرية الموجودة تزودنا بوفوار بعنصر مهم للنمو والتطور والحرية في أخلاقيات الغموض، ويبدأ معظم الفلاسفة مناقشاتهم مع إنسان كامل النضج وعقلاني كما لو أنّ البالغ هو الوحيد الذي يهتم بالتحقيق الفلسفي، ومع ذلك تضم بوفوار تحليلًا للطفولة تجادل فيه بأنّ الإرادة أو الحرية تتطور بمرور الوقت.
وبالتالي لا يعتبر الطفل أخلاقيًا لأنّه ليس لديه اتصال بالماضي أو المستقبل ولا يمكن فهم الفعل إلّا على أنّه يتكشف بمرور الوقت، بالإضافة إلى ذلك يعطينا وضع الطفل لمحة عن ما تسميه بوفوار موقف الجدية الذي يتم فيه إعطاء القيم وليس اختيارها، وفي الواقع لأنّ كل شخص كان طفلاً في يوم من الأيام فإنّ الموقف الجاد هو الشكل الأكثر انتشارًا لسوء النية.
إنكار الحرية والوصول إلى سوء النية:
تصف الطرق المختلفة التي يفر بها الموجودون من حريتهم ومسؤوليتهم، وتصنف بوفوار عددًا من المواقف غير الأصيلة المختلفة والتي تشير جميعها بأشكال مختلفة إلى الهروب من الحرية، وبما أنّ الطفل ليس أخلاقيًا ولا غير أخلاقي فإنّ الفئة الفعلية الأولى لسوء النية تتكون من (الرجل الفرعي) الذي من خلال الملل والكسل يقيد الحركة الأصلية للعفوية في إنكار حريته أو حريتها.
هذا موقف خطير يجب أن نعيش فيه لأنّه حتى عندما يرفض الرجل الفرعي الحرية، فإنّه يصبح بيدقًا مفيدًا يتم تجنيده من قبل (الرجل الجاد) لارتكاب أعمال وحشية وغير أخلاقية وعنيفة، فالرجل الجاد هو الموقف الأكثر شيوعًا للهروب لأنّه يجسد الرغبة التي يشترك فيها جميع الموجودون لتأسيس حريتهم في معيار خارجي موضوعي، كما يتمسك الرجل الجاد بالقيم المطلقة وغير المشروطة التي يخضع لها حريته.
إنّ الشيء الذي يحاول الموقف الجاد الاندماج فيه ليس مهمًا، كما يمكن أن يكون عسكريًا للجنرال وشهرة للممثلة وسلطة للسياسي، فما هو مهم هو ضياع الذات فيها، ولكن كما أخبرتنا بوفوار بالفعل فإنّ كل فعل يفقد معناه إذا لم يكن من إرادة الحرية وواضعًا الحرية كهدف لها، وهكذا فإنّ الرجل الجاد هو المثال النهائي لسوء النية لأنّه بدلاً من السعي لاحتضان الحرية فإنّه يسعى إلى الخسارة في صنم خارجي.
يميل جميع الموجودون إلى وضع قيم الجدية (على سبيل المثال من خلال الادعاء بأنّ المرء جمهوري أو ليبرالي كما لو أنّ هذه الألقاب كانت أشياء جوهرية حددتنا بأي معنى أساسي) وذلك تعطي معنى لحياتهم، ولكن موقف الجدية يؤدي إلى الاستبداد والقمع عندما يكون إعلان (السبب) أكثر أهمية من أولئك الذين يتكونون منه.
المواقف الأخرى من سوء النية تشمل (العدمي) وهو موقف ناتج عن الجدية المخيبة للآمال والتي تراجعت عن نفسها، فعندما يفهم الجنرال أنّ الجيش هو صنم زائف لا يبرر وجوده فقد يصبح عدميًا وينكر أنّ للعالم أي معنى على الإطلاق، كما يرغب العدمي في ألّا يكون شيئًا لا يختلف عن حقيقة حرية الإنسان في بوفوار، ومع ذلك فإنّ العدمي ليس اختيارًا حقيقيًا لأنّه لا يؤكد العدم بمعنى الحرية ولكن بمعنى الإنكار.
على الرغم من ذكر مواقف أخرى مثيرة للاهتمام من سوء النية (مثل الرجل الشيطاني والرجل العاطفي) فإنّ الموقف الأخير المهم هو موقف المغامر، فالمغامر مثير للاهتمام لأنّه قريب جدًا من الموقف الأخلاقي الأصيل، حيث يتجاهل المغامر قيم الجدية والعدمية ويلقي بنفسه في الحياة ويختار العمل لمصلحته، ولكن المغامر لا يهتم إلّا بحريته ومشاريعه وبالتالي يجسد موقفًا أنانيًا وربما استبداديًا، كما يُظهر المغامر ميلًا لمواءمة نفسه مع من يمنح القوة والسرور والمجد، وفي كثير من الأحيان لا يهتم أولئك الذين يمنحون هذه الهدايا برفاهية الإنسانية.
تحليل الوضع والغموض:
تم العثور على أحد أعظم إنجازات بوفوار في كتابها (أخلاقيات الغموض) في تحليلاتها للوضع والغموض، فبالنسبة للفيلسوف جان بول سارتر المبكر فإنّ موقف المرء (أو الوقائعية) هو مجرد ما يجب تجاوزه في الاندفاع التلقائي للحرية، ومن المؤكد أنّ الوضع هو حد ولكنه حد لا يمكن تجاوزه، ومع ذلك تدرك بوفوار أنّ بعض المواقف لا يمكن تجاوزها ببساطة ولكنها تعمل كمثبطات صارمة وغير مسبوقة للعمل، على سبيل المثال تخبرنا أنّ هناك شعوب مضطهدة مثل العبيد والعديد من النساء اللائي يعشن في عالم طفولي حيث تُمنح القيم والعادات والآلهة والقوانين لهن دون أن يتم اختيارهن بحرية.
لا يتم تحديد وضعهم من خلال إمكانية التعالي ولكن من خلال تطبيق المؤسسات الخارجية وهياكل السلطة، وبسبب القوة التي تمارس عليهم لا يمكن في العديد من الظروف تجاوز حدودهم لأنّهم غير معروفين، وبعبارة أخرى يبدو أنّ وضعهم هو النظام الطبيعي للعالم، وهكذا تحير العبد والمرأة في الاعتقاد بأنّ نصيبهما من نصيبهما بطبيعتهما.
كما تشرح بوفوار لأننا لا نستطيع التمرد على الطبيعة فإنّ الظالم يقنع المضطهدين بأنّ وضعهم على ما هو عليه لأنّهم بطبيعتهم أقل شأناً أو عبيداً، وبهذه الطريقة يحير الظالم المظلوم بإبقائهم جاهلين بحريتهم وبالتالي يمنعهم من التمرد، كما تشير بوفوار بحق إلى أنّه لا يمكن للمرء ببساطة أن يدّعي أنّ أولئك الذين تحيروا أو مضطهدين يعيشون في سوء نية، ولا يمكننا الحكم إلّا على تصرفات هؤلاء الأفراد على أنّها خارجة عن وضعهم.
وفقط الموقف الأخلاقي الأصيل يفهم أنّ حرية الذات تتطلب حرية الآخرين، كما إنّ التصرف بمفردك أو بدون الاهتمام بالآخرين لا يعني أن تكون حراً، كما توضح بوفوار: “لا يمكن تحديد أي مشروع إلّا من خلال تدخله في المشاريع الأخرى”، وبالتالي إذا تقاطع مشروعي مع الآخرين الذين تم استعبادهم سواء بالمعنى الحرفي أو من خلال الغموض فأنا أيضًا لست حراً حقًا، وعلاوة على ذلك إذا لم أسعى بنشاط لمساعدة أولئك الذين ليسوا أحرارًا فأنا متورط في اضطهادهم.
بما أن هذا الكتاب كتب بعد الحرب العالمية الثانية فليس من المستغرب أن تهتم بوفوار بمسائل القمع والتحرير والمسؤولية الأخلاقية التي يتحملها كل منا تجاه بعضنا البعض، فمن الواضح أنّها وجدت موقف الجدية هو الجاني الرئيسي في الحركات القومية مثل النازية التي تتلاعب بالناس للاعتقاد بقضية ما كأمر مطلق لا جدال فيه، كما يتطلب تضحية عدد لا يحصى من الأفراد.
تناشدنا بوفوار أن نتذكر أنّه لا يمكننا أبدًا تفضيل قضية على إنسان وأنّ الغاية لا تبرر الوسيلة بالضرورة، وبهذا المعنى فإنّ بوفوار قادرة على تعزيز الأخلاق الوجودية التي تؤكد حقيقة المشاريع الفردية والتضحيات مع الإبقاء على أنّ مثل هذه المشاريع والتضحيات لها معنى فقط في مجتمع يتألف من أفراد لهم ماضٍ وحاضر ومستقبل.