نادرًا ما كانت الأهمية الفلسفية لكتابات الفيلسوف موريس بلانشوت موضع شك، ولقد ثبت أنّ تحديد طبيعة وآثار تفكيره أقل سهولة خاصة فيما يتعلق بالشخصية الرئيسية لجورج فيلهلم فريدريش هيجل، ويكشف الفحص أنّ تفكير بلانشوت موجه بإصرار نحو التشكيك في مصطلحات فكر هيجل، بينما يظل مع ذلك ضمن موضوعاته، وهو ما يوضح مدى صرامة دراسته لأعمال هيجل وأيضًا إلى أي مدى أصبح نقده لها جذريًا، كما تجذب قراءة بلانشوت لفلسفة فريدريك نيتشه الناضجة الكثير من الاهتمام.
الفلسفة بين فكر بلانشوت وهيجل:
مكانة هيجل لدى بلانشوت:
بقدر ما أشار مفكرو العصور الوسطى إلى أرسطو على أنّه الفيلسوف، ولكن بالنسبة إلى بلانشوت فإنّ هيجل هو أكثر من يجسد خطاب الفلسفة المفسر على أنّه كل منهجي، كما كتب بلانشوت في المحادثة اللانهائية (The Infinite Conversation) بإنّ: “هيجل هو المفكر الذي تلتقي فيه الفلسفة وتنجز نفسها”.
وهكذا تصبح الفلسفة الهيجلية الخلفية لكثير مما يقوله بلانشوت ليس فقط عن الفلسفة الصحيحة ولكن أيضًا عن التاريخ والأدب، وما يمثله هيجل هو الوعد الكاذب بالكلية بجميع أشكالها المختلفة (المعرفية والأنطولوجية والسياسية والتاريخية والنصية)، ويصبح النظام الهيجلي رمزًا لكل نظام أي لكل محاولة لتحقيق الانغلاق الذاتي الشامل الذي لا يمكن دحضه، سواء تم تفسير ذلك على أنّه نظام للمعرفة المطلقة أو حتى شيء مثل كتاب مالارمي كتاب مطلق (Absolute Book).
في مواجهة خطاب يسعى للسلطة والسيطرة على (الكل) فإنّ استراتيجية بلانشوت في قراءة هيجل هي أن يضع نفسه بشكل غير مباشر على طول هوامش نص هيجل ولا يعارض هيجل مباشرة ولا يؤيده، وعادة ما تتبع قراءة بلانشوتية مؤلف كتاب الظواهر حتى النقطة التي يبدأ فيها النص في الانهيار على أساس منطقه الخاص وتفسح فلسفته الطريق أمام سؤال (aporia).
تأثير فلسفة هيجل على بلانشوت:
يمكن العثور على مثالين مبكرين على ذلك في مقالات بلانشوت وذلك في عامي 1947 و 1948 بعنوان على التوالي: مملكة الحيوان الروحية والأدب (The Spiritual Animal Kingdom) والحق في الموت (Literature and the Right to Death)، وهنا نجد بلانشوت تحت تأثير قراءة كوجيفي لهيجل بحيث يسلط الضوء على التناقضات التي تنطوي عليها مفاهيم الموت والسلبية في نص هيجل.
لا يختلف بلانشوت عن جورج باتايلي من حيث أنّه يشعر بجو من الاحتيال يحيط بادعاء الانغلاق للنظام الهيجلي، بدءًا من أطروحة كوجيف القائلة بأنّ فلسفة هيجل هي فلسفة الموت، كما يتساءل بلانشوت عما يحدث لهذه السلبية التي تعمل كقوة دافعة لكل التاريخ بمجرد وصول التاريخ إلى نهايته، وعلاوة على ذلك إذا كانت السلبية هي بالضبط ما يثير جدلية التاريخ في الحركة في المقام الأول، إذن ألّا يعين هذا للسلبية موقفًا في نفس الوقت (قبل) و(ما بعد) النظام المعني ذاته؟
هذا الإفراط أو المظهر الخارجي غير القابل للاسترداد هو بالضبط ما يبدو أنّ نظام هيجل يفترضه مسبقًا ولكنه يرفضه في نفس الوقت، وهذا يعني أنّ تماسك النظام الهيجلي يعتمد على الشيء ذاته الذي يستبعده، وإنّ الإشارة إلى هذه التبعية للداخل على الخارج هي مجاز بلانشوت متكرر بشكل متواصل ويتم استخدامه بتأثير كبير هنا فيما يتعلق بهيجل، وكما كتب بلانشوت نفسه في كتابة الكارثة: “ما يتجاوز النظام هو استحالة فشلها وكذلك استحالة نجاحها”.
بحلول أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات أصبح اسم هيجل جنبًا إلى جنب بشكل متزايد في نصوص بلانشوت مع الاسم نيتشه، وإذا كان بلانشوت ينظر إلى هيجل على أنّه المُجمَّع العظيم فإنّ نيتشه من ناحية أخرى هو المفكر بلا غلاف وبدون العمل الرئيسي وبدون نظام وبدون أي عقيدة لا تعلق نفسها في نفس الوقت، وعلاوة على ذلك إذا كان هيجل هو المفكر العظيم للإمكانيات (التي أساسها وفقًا لتفسير كوجيفي هو الموت) فإنّ نيتشه هو الذي يأتي ليرمز بالنسبة لبلانشوت دوار العائد الأبدي الذي يتعارض مع كل أصل وكل شخص، وينتهي ويوقف عمل الموت ويضعنا في استحالة الموت.
الفلسفة بين فكر بلانشوت ونيتشه:
مكانة نيتشه لدى بلانشوت:
نيتشه بالنسبة لبلانشوت هو شخصية معقدة تقع داخل الميتافيزيقيا وخارجها دائمًا، وهو كما يؤكد بلانشوت في عام 1958 الفيلسوف الأخير، وهو مفكر تشكل نصوصه الحدث الذروة في الميتافيزيقيا الغربية، وفي الوقت نفسه يصر بلانشوت على أنّ نيتشه خارج الميتافيزيقيا ويشير إلينا نحو المشتت والمتشظي وغير المنقول.
خلال تعاطيه لعقود طويلة مع فكر نيتشه قدم بلانشوت تعليقًا قاطعًا على مجموعة متنوعة من الموضوعات ومنها: العدمية والرجل الأخير وإرادة القوة وديونيسوس وفلسفة الزمن والمستقبل ،وموت الإله والمنظورية وتجربة النشوة، وعلاوة على ذلك تُظهر نصوص بلانشوت من أواخر الخمسينيات فصاعدًا حساسية حادة للفعالية السياسية والأعباء السياسية لفكر نيتشه.
اعترافًا بالاستيلاء المروع على نيتشه من قبل الأيديولوجيين الفاشيين خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، يسعى بلانشوت مع ذلك إلى تصوير نيتشه على أنّه مفكر نموذجي غير منهجي يقاوم فكره (إذا تم اتباعه بصرامة ودون مساومة) كل محاولات التملك والإتقان، وبقدر ما يقرأ المرء نيتشه بانتباه يرى المرء أنّه مفكر على خلاف مع جميع أشكال الكلية والشمولية ومعاداة السامية.
تأثير فلسفة نيتشه على بلانشوت:
ظهر أول ارتباط جوهري لبلانشوت مع فلسفة نيتشه في أواخر عام 1945، وهنا في مقال بعنوان (على جانب نيتشه) أعاد بلانشوت كتابة أطروحة كارل ياسبرز الأساسية حول نيتشه، أي أنّ الدافع الأساسي لفكر نيتشه يكمن في الميل نحو التناقض الذاتي، ويبدو إنّ إظهار تأثير كوجيف مرة أخرى فإنّ هذه التناقضات المستمرة، وحسب بلانشوت: “لا تستريح في بعض التوليفات الأعلى، لكنها تتماسك بتوتر متزايد”، كما إنّ ميل فكر نيتشه إلى التناقض مع نفسه دون حل يشير إلى الدور الأوسع الذي سيلعبه نيتشه ضمن نصوص بلانشوت كمتحدث رسمي بامتياز للتفكير غير الغائي.
محور هذه القدرة اللاغائية لفكر نيتشه هو فكرة العودة الأبدية، وبعد متابعة بحث كلوسوفسكي (النسيان وحرية الذاكرة) عام 1964 مباشرة بدأ بلانشوت في تطوير قراءة مميزة وجذرية للعودة الأبدية في منتصف الستينيات، والتي تنظر إلى أفكار نيتشه على أنّها عقيدة أقل منه كمحاكاة لعقيدة، وفي صفحات المحادثة اللانهائية يقترح بلانشوت أطروحة جديدة تتعلق بالسبب وراء نظام زرادشت (ونيتشه نفسه) للتأخير والتأجيل فيما يتعلق بإعلان رسالة التكرار الأبدي.
يجادل بلانشوت بأنّ هذا التأجيل لا ينبغي أن يُعزى إلى بعض العجز العرضي من جانب المتحدث للتعبير عن الفكر بأمانة أو شاملة، بل بالأحرى إلى نفور الفكر الراديكالي من كل الوجود، ووفقًا لبلانشوت يتم تأجيل العودة الأبدية باستمرار من كل الفكر لأنّ تأجيل كل وجود هو المعنى الحقيقي للفكر نفسه، وما (يعود) -إنّ وجد- هو حدث لم يكن موجودًا من قبل أو بالأحرى حدث يفرغ الوجود نفسه.
بحلول وقت الخطوة التي لا تليها (The Step Not Beyond) عام 1973 أصبحت كتابات بلانشوت عن نيتشه منحرفة بشكل متزايد، ففي مجموعة من الملاحظات التي صيغت ردًا مباشرًا على نيتشه والحلقة المفرغة لكلوسوفسكي، ولكنها اقترحت أيضًا المشاركة مع عمل دولوز في أواخر الستينيات حول العودة الأبدية، فيقترح بلانشوت أنّ عدم التناسق يعمل في التكرار نفسه، مما يعني أنّ الماضي لا يكرر المستقبل بنفس الطريقة التي يكرر بها المستقبل الماضي.
تحدث إعادة إدراج فكرة العودة الأبدية في كتابه (كتابة الكارثة) حيث يستحضر بلانشوت مرارًا وتكرارًا طريقة التكرار الزمني التي أدت دائمًا إلى إزاحة الوجود بالفعل وتعليق الحاضر والانسحاب من الذات أي أساس لبناء فكرة متماسكة الهوية الذاتية أو الذاتية.