اقرأ في هذا المقال
إنّ الاستفزاز الذي طرحه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (Martin Heidegger) للنظرية الفرنسية في منتصف القرن العشرين موثق جيدًا، فمن الفيلسوفان الفرنسيان جان بول سارتر وجاك لاكان إلى إيمانويل ليفيناس ودريدا، أثقل مطلب فلسفة هايدجر بشكل كبير على عدد لا يحصى من المفكرين، وفي هذا الصدد لم يكن الفيلسوف موريس بلانشوت استثناءً، حيث إنّ فهم بلانشوت الجيد للألمانية وتعرضه المبكر لعمل هايدجر (تم تقديمه إليها عبر ليفيناس في أواخر عشرينيات القرن الماضي) قد جعل من الارتباط الكبير مع مؤلف كتاب الوجود والزمن أمرًا لا مفر منه.
مكانة فلسفة هايدجر لدى بلانشوت:
خلال فترة كتابات بلانشوت المنشورة وجدنا أمثلة لا حصر لها من الارتباط الجوهري بفكر هايدجر، ففي البداية حول القضايا المتعلقة بالعمل الفني والشعرية وهولدرلين (Hölderlin)، وفي وقت لاحق ستشمل هذه الارتباطات تساؤلات أعمق عن مكانة الوجود ومشكلة العدمية ومفهوم المستقبل من بين موضوعات أخرى.
خلال كتاباته التي تلت الحرب أظهر بلانشوت حساسية حادة وفروقًا دقيقة في التعامل مع إرث هايدجر كمفكر وقع في شرك جاذبية الاشتراكية القومية، ومن ناحية أخرى سارع بلانشوت إلى الاعتراف بأنّه بإلزام معجمه الفلسفي لقضية الحزب النازي في تأييد علني لهتلر في عام 1933، أثار هايدجر شكوكًا لا حدود لها حول خطابه وشوهه إلى الأبد.
من ناحية أخرى يرى بلانشوت أنّ فلسفة هايدجر جديرة بالتعليق وإلى حد ما لا مفر منها كنقطة مرجعية، بقدر ما تقدم (مثل فلسفة جورج فيلهلم فريدريش هيجلولكن في سجل مختلف) وصفًا للاحتضان الشامل للكينونة، ويعتبر تحدي هايدجر للفلسفة تحديًا يستحيل تجاهله.
التعليق على فلسفة الجماليات هايدجر:
في وقت مبكر من استعراضه لغثيان سارتر في عام 1938 يمكن رؤية بلانشوت بالفعل وهو يصر على أهمية وصف هايدجر للأزمة التي يواجهها الفن الحديث، وعلى الرغم من ندرة الإشارات الصريحة إلى هايدجر خلال سنوات الحرب فمن الواضح أنّ بلانشوت كان قد استوعب بالفعل بحلول هذا الوقت الكثير من أفكار هايدجر، فلا يوجد مكان يتجلى فيه هذا الأمر أكثر من كتابات بلانشوت المبكرة عن هولدرلين والتي تعكس بقوة الميل الهايدجري.
بالنسبة إلى هايدجر فإن (Dichtung) وهو مصطلح يعني الشعر في اللغة الشائعة، ولكنه يشير أيضًا بشكل اشتقاقي إلى مفهوم الاختراع، بحيث أصبح يتمتع بامتياز باعتباره أكثر أنواع الأعمال الفنية أهمية لأنّه يعمل كأساس لوجود (Dasein) -أي أن يكون هناك- التاريخي أيضًا، هذا بالإضافة إلى أنّها تعمل كأصل للغة نفسها، ووفقا لهايدجر كل عمل أصيل للإبداع الفني له (Dichtung) في أصله، وقد اتبع بلانشوت في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي هيدجر بالإصرار على الدور المميز للغة الشعرية كأساس فيما يتعلق بالعالم، كما إنّها لغة شعرية تفتتح العالم وتكشف الذات البشرية.
فقط حوالي عام 1946 ومع نشر كلمة هولدرلين المقدسة بدأ بلانشوت في اتخاذ مسافة ملحوظة من هايدجر، ففي هذا المقال يرفض بلانشوت أخيرًا المصالحة الهايدجيرية بين (Dichtung) والكينونة، ويقدم وصفًا لعمل هولدرلين الشعري الذي لا ينظر إليه على أنّه فعل من أعمال الأساس الوجودي بل موقعًا لتوتر لا يمكن حله حيث تواجه القصيدة بلا توقف استحالة و لا أساس له.
بحلول الوقت الذي كتب فيه بلانشوت مقالًا بعنوان الأدب والتجربة الأصلية (Literature and the Original Experience) في عام 1952، أصبحت أوجه التشابه والاختلاف بين وجهات نظر بلانشوت ووجهات نظر هايدجر حول الفن والشعر أكثر وضوحًا، وما يشترك فيه المفكران بالمعنى العام هو رفض أي فلسفة جمالية تقوم على التمييز بين الشكل والمحتوى والموضوع والهدف.
علاوة على ذلك يبني كل مفكر روايته من مواجهة أولية مع جماليات هيجل، ومن أمره الشهير بأنّ: “الفن اليوم أصبح شيئًا من الماضي”، ولكن بينما يصر هيدجر على علاقة العمل المميزة بالحقيقة (مثل عدم الإخفاء) وبالتالي بالعالم يطور بلانشوت سردًا للفن والأدب يؤكد على مظهرهما الخارجي الراديكالي فيما يتعلق بالعالم والعمل والحقيقة.
تفاعل بلانشوت مع فلسفة هايدجر:
أنّ تفاعل بلانشوت مع هايدجر لا يقتصر بأي وسيلة على الجماليات، ففي خضم عودته إلى السياسة الوطنية وانغماسه العميق في فلسفة فريدريك نيتشه يقدم بلانشوت تعليقًا مهمًا في عام 1958 حول تبادل هايدجر مع الفيلسوف إرنست جونجر حول أبورياس (aporias) العدمية.
وبعد ذلك بوقت قصير تمت دعوة بلانشوت للمساهمة بقطعة كتابية لتضمينها في عيد ميلاد هايدجر السبعين فيستكريفت (وهو منشور يتكون من عدة مساهمات كتبها مؤلفون مختلفون ويتم نشره في الذكرى السنوية)، وتتألف هذه القطعة التي تحمل عنوان انتظار (Waiting) من سلسلة من المقاطع، مما يشير إلى أول غزو نشر لبلانشوت في شكل نصي من شأنه أن يؤكد وجوده مع بروز متزايد في كتاباته على مدى العقود التالية.
وفي هذه القطعة التي أعيد نشرها لاحقًا مع تنقيحات وإضافات جوهرية كجزء من نص عام 1962 في انتظار النسيان (Awaiting Oblivion) يصف بلانشوت نوعًا من الانتظار الخالي من الانتقال حيث لم يعد يُقاس الوقت على أنّه سلسلة متوالية من لحظات الآن ولكنها تركت خالية من كل الاعتمادات والحسابات، ولا يشير الانتظار هنا إلى توقع شيء ما أو شخص ما يمكن أن يأتي ليحتل لحظة من الوجود الثابت، بل بالأحرى إنّها تدل على انتظار لحظة تزيح التوقيت الزمني: أي انتظار لا شيء سوى الانتظار نفسه.
يشيد بلانشوت هنا بتأثير هايدجر في هذا الحساب للزمانية غير التمثيلية وما بعد الميتافيزيقية، ومع ذلك كما يوضح مقال بلانشوت عن هيراقليطس الذي نُشر لأول مرة في عام 1960 بأنّه حدث اختلاف عميق في مقاربتهما، وبينما يقدم لنا هرقليطس لهيدجر نظرة ثاقبة عن عدم إخفاء الوجود يقترح بلانشوت قراءة الأجزاء الهرقلية كمثال للغة لا تُفسر على أنّها ملجأ للوجود، ولكن كاستجابة للتغير الجذري لما يبقى خارج الوجود تمامًا.
هنا كما هو الحال في الكثير من كتابات بلانشوت في الستينيات والسبعينيات تفترض اللغة وظيفة مزدوجة مثل تلك التي تسمي الممكن، ولكنها أيضًا تشهد على ما يسبق ويتجاوز كل الأنطولوجيا بلا حدود.
وبالانتقال إلى حد ما من مفهوم (il y a) -بمعنى يوجد- الذي كان لا يزال بناءًا وجوديًا (وإن كان تخريبيًا)، ينشر بلانشوت بشكل متزايد فكرة المحايد، وهو مفهوم زائف يهدف إلى إزاحة كل الأسبقية الوجودية، وبما أنّه لا علاقة له بالوجود أو بعدم الوجود فإنّ المحايد يعمل كشرط لإمكانية واستحالة إطار هيدجر الأنطولوجي، وينحي ضمنيًا مسألة معنى الوجود جانبًا ويضعه جانباً مع السؤال الأكثر إلحاحًا عن الآخر.