اقرأ في هذا المقال
الكثير من الأعمال الفلسفية للبراغماتيين الكلاسيكيين وكذلك أعمال رويس وآخرين على الرغم من أنّها بدأت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر فقد انتقلت إلى العقود الأولى من القرن العشرين، وبينما استمرت البراغماتية في كونها حركة مهيمنة في الفلسفة الأمريكية في هذه العقود الأولى فقد ظهرت حركات ومدارس فكرية أخرى.
الفلسفة الأمريكية المثالية:
كانت إحدى الحركات الأولى في الفكر الأمريكي في القرن العشرين هي رفض المثالية، والتي قادها إلى حد كبير تلميذ رويس جورج سانتايانا الذي ولد في عام 1863 وتوفي في عام 1952، حيث رأى الفلسفة على أنّها تخلت للأسف، وفي حالة المثالية تناقض إحساس، وإذا دفعنا بمفهوم المعرفة إلى نقطة تتطلب عدم الشك فإنّ الشك هو النتيجة حيث لا يوجد شيء يرضي هذا المطلب.
من ناحية أخرى إذا كانت المعرفة نوعًا من الإيمان بقدر ما يعتمد الحس السليم على افتراضات غير مختبرة، فإننا نقود إلى وجهة نظر الإيمان الحيواني التي يؤيدها سانتايانا، وهذه العودة إلى الفطرة السليمة أو على الأقل إلى الموقف الواقعي الطبيعي رددها العديد من الفلاسفة في هذا الوقت.
في عام 1910 في مجلة الفلسفة والتي كانت تسمى آنذاك مجلة الفلسفة وعلم النفس والأساليب العلمية، أعلنت مقالة بعنوان (البرنامج والمنصة الأولى لستة واقعيين) عن رد فعل قوي ضد المثالية وما شوهد من عناصر مثالية في البراغماتية.
من بين الألواح الأساسية لهذا البرنامج كانت عبارات مفادها:
1- أنّ الأشياء موجودة بشكل مستقل عن العقل.
2- أنّ الأنطولوجيا مستقلة منطقيًا عن نظرية المعرفة.
3- أنّ نظرية المعرفة ليست أساسية منطقيًا (أي أنّ الأشياء معروفة لنا مباشرة).
4- أنّ درجة الوحدة والاتساق أو الاتصال القائم بين الكيانات هو أمر يجب التحقق منه تجريبياً.
بالنظر إلى هذا الموقف الواقعي شرع هؤلاء الفلاسفة بعد ذلك في محاولة إنتاج حسابات طبيعية للأمور الفلسفية، على سبيل المثال نظرية القيمة العامة لرالف بارتون بيري الذي ولد في عام 1876 وتوفي في عام 1957.
الفلسفة الأمريكية العملية:
كانت المدرسة الفكرية الثانية في وقت مبكر من القرن تُعرف باسم (فلسفة العملية)، وتم تحديد فلسفة العملية إلى حد كبير مع أعمال ألفريد نورث وايتهيد المولود في عام 1861 وتوفي عام 1947، على الرغم من وجود مؤيدين بارزين آخرين مثل تشارلز هارتشورن، وانطلقت فلسفة العملية من علم الوجود الذي اتخذ الأحداث أو العمليات كأولوية، وتم التأكيد على التغيير والصيرورة على الدوام والوجود، وذلك بالاعتماد على التطورات العلمية المعاصرة، ولا سيما النظرة الآينشتينية للعالم سلط وايتهيد الضوء على (أنطولوجيا الحدث).
في عمله المشهور مفهوم الطبيعة أصر على أنّ الطبيعة هي هيكل للأحداث، واعتمادًا على الفهم الآينشتاين الجديد رباعي الأبعاد للعالم، فإنّ الأشياء أو ما أسماه (التوافق) هي مجرد تيارات الأحداث التي تحافظ على ديمومة الشخصية، واحتضان العلم المعاصر هذا لم يستلزم موقفًا ماديًا لوايتهيد أكثر من احتضان جوناثان إدواردز للنظرة النيوتونية للعالم الذي استلزم المادية من جانبه، وبدلاً من ذلك ميّز وايتهيد بين فكرة الطبيعة بلا حياة والطبيعة على قيد الحياة، مع اعتبار الأخير اعترافًا بالقيمة والغرض باعتباره أساسيًا للتجربة مثل عالم خارجي من الأحداث.
الفلسفة الأمريكية التجريبية والتحليلية:
على الرغم من وجود هاتين الحركتين والتأثير الذي لا يزال قائماً للبراغماتية، فقد هيمن على النصف الأوسط من القرن العشرين في أمريكا التجريبية والفلسفة التحليلية مع تحول واضح نحو التحليل اللغوي، بدءًا من التأثير القوي للوضعيين المنطقيين (أو التجريبيين المنطقيين)، وعلى الأخص رودولف كارناب، فقد تحولت الفلسفة الأكاديمية بطريقة محددة من الاهتمامات الاجتماعية والسياسية إلى التحليل المفاهيمي والتفكير الذاتي (أي إلى السؤال عن الدور المناسب للفلسفة).
بلا شك كان الفيلسوف الأمريكي الأكثر نفوذاً خلال هذا الوقت ويلارد فان أورمان كوين الذي ولد في عام 1908 وتوفي في عام 2000.
على الرغم من أنّ كوين كان ينتقد العديد من جوانب الوضعية المنطقية، ففي الواقع كان أحد أكثر مقالاته شهرة هو عقيدتان من المذهب التجريبي، إلّا أنّه شاركهم وجهة نظرهم بأنّ دور الفلسفة لم يكن لتنوير الأشخاص أو خدمة الاهتمامات الاجتماعية والسياسية، قائلًا إنّ الفلاسفة بالمعنى المهني ليس لديهم لياقة معينة للإلهام أو المساعدة في جعل المجتمع على قدم المساواة، وجادل بدلاً من ذلك بأنّ وظيفة الفلسفة هي إزالة التشويش والأخطاء المفاهيمية.
ونظرًا لأنّ الفلسفة في جزء كبير منها مستمرة مع العلم بمعنى محاولة فهم ما هو موجود وكيف يمكننا الازدهار في العالم، فقد ادّعى أنّ الفلسفة هي النهاية النظرية المجردة للمساعي العلمية، ومن خلال الدعوة إلى علم الوجود الفيزيائي كان كوين سلوكًا علنيًا حول فهم الوكالة والمعرفة البشرية، ومنتقدًا التمييز التحليلي أو التركيبي والرأي القائل بأنّ هناك حقائق مستقلة عن الحقائق حول العالم، ودافع كوين بقوة عن نظرية المعرفة الطبيعية والأخلاق المتجنس.
ادّعى كوين اتباع نهج شامل للمعرفة وذلك اعترافًا صريحًا بوجود تقارب مع بعض جوانب البراغماتية، وأصّر على عدم حدوث تجارب معينة بمعزل عن غيرها، وبدلاً من ذلك نختبر شبكة من المعتقدات مع كل معتقد أو بيان أو تجربة تؤثر على المجال ككل، ومن ثم تواجه تصريحاتنا حول العالم الخارجي محكمة الخبرة الحسية ليس بشكل فردي ولكن فقط كهيئة جماعية.
وأكدّ كوين أنّه في حين لا يوجد انقسام بين الحقيقة والقيمة، فإنّ العلوم مع نظام الضوابط والتوازنات تقدم أفضل النظريات والنماذج لما هو موجود، إلى جانب التزامه بالمادية والسلوكية والشمولية، فقد حث كوين على ما أسماه (الصعود الدلالي)، أي أنّ الفلسفة يجب أن تستمر بالتركيز على تحليل اللغة، فمن خلال النظر إلى اللغة التي نستخدمها ومن خلال تأطير الاهتمامات الفلسفية من حيث اللغة، يمكننا تجنب الخلافات الفلسفية غير المثمرة والالتزامات الوجودية الخاطئة.
في إطار الفلسفة الأكاديمية ربما اشتهر كوين بعمله في المنطق الرسمي والرياضي وبمذهبه عن عدم تحديد الترجمة، وفي كتابه المؤثر للغاية كلمة وكائن (Word and Object) قدم مصطلح (gavagai)، و(Gavagai) هو مصطلح نطق به أحد السكان الأصليين أثناء الإشارة إلى شيء ما في البيئة المباشرة، وهو شيء يبدو لنا على أنّه أرنب.
ومع ذلك من هذا الكلام لا نعرف ما إذا كان ينبغي ترجمة (gavagai) إلى اللغة الإنجليزية على أنّها (أرنب) أو (أجزاء أرنب غير منفصلة) أو (شريحة زمنية للأرنب) أو أي شيء آخر، والنقطة المهمة هي أنّه لا يوجد تسليم للموقف ولا حتمية للترجمة، كما أنّ هذا ليس بالأمر البسيط لأنّ هذا النقص في العطاء والعزم ينطبق في جميع المواقف، وهناك عوامل أخرى عملية تسمح بالتواصل والفهم.