الفيلسوف سبينوزا بين الملكية والأرستقراطية والديموقراطية

اقرأ في هذا المقال


حاول الفيلسوف الهولندي بنديكت دي سبينوزا من القرن السابع عشر أيضًا وضع نظرية سياسية علمية لكنها كانت أكثر إنسانية وأكثر حداثة، ويفترض هوبز وجود مجتمع ما قبل الصناعة ومحافظ اقتصاديًا لكن سبينوزا يفترض بيئة حضرية أكثر، وإنه ديكارتي مثل هوبز يهدف إلى أساس علمي للفلسفة السياسية ولكن بينما كان هوبز دوغماتيًا وسلطويًا أراد سبينوزا التسامح والحرية الفكرية التي من خلالها تحقق الحياة البشرية أعلى جودة.

فلسفة سبينوزا في الدستورية والنظم النموذجية:

لنرى كيف يقدم سبينوزا إجابة عامة لمسألة كيفية تعزيز السلام أو الاتفاق المدني، ويجب أن نضع في اعتبارنا أنّ علاقة الاتفاق تأتي في درجات، والاتفاق الكامل ما يسميه Blom “الاتفاق الأقصى”، ممكن فقط إلى الحد الذي يكون فيه الرجال عقلانيين تمامًا، وسيكون مجتمع الرجال الأحرار اتحادًا كاملاً.

ومع ذلك فإنّ الرجل الحر موجود فقط كمثل جميع الرجال الفعليين عقلانيون بشكل غير كامل، وإنّ اهتمام الدولة هو جعل العلاقات الفعلية بين الناس أقرب إلى المجتمع المثالي للرجال الأحرار، وهذا يعني أنّ هدف الدولة هو جعل الرجال الأنانيين غير العقلانيين وعقلانيين وفاضلين قدر الإمكان.

يتمثل حل سبينوزا بشكل عام في تبني إجراءات دستورية وإجراءات مؤسسية توجه المشاعر الطبيعية لدى الرجال نحو الصالح العام، والرؤية هنا هي واحدة من ميكنة العقل بالطريقة نفسها التي يقال أنّ جمهورية البندقية لديها فضيلة ميكانيكية وهي رؤية مدين بها كثيرًا لأعمال De la Courts، والعقلانية المدنية هي نتاج مجموعة من المؤسسات الجمهورية التي تشجع المشاركة الواسعة والمداولات العامة واعتماد مجموعة متنوعة من آليات تعزيز المساءلة.

إنّ الدولة المنظمة بشكل عقلاني لن تعزز الصالح العام فحسب بل إنّها بذلك ستقوي الالتزام المدني لمواطنيها وهذه إحدى الطرق الرئيسية التي تساهم بها الدولة في إعادة توجيه تأثيرات مواطنيها وتزيد من مستوى التوافق بين المواطنين والذي نتج عنه الانسجام أو السلام.

الأرستقراطية وسبينوزا:

يناقش سبينوزا نوعين من الأرستقراطية وأفضل أشكال كل منهما:

  1. الأرستقراطية المركزية: يبدو أنّها صُممت على غرار جمهورية البندقية.
  2. الطبقة الأرستقراطية اللامركزية: التي تحتفظ فيها عدة مدن بالسيادة، ومن الواضح أنّ هذا النوع من الأرستقراطية الذي يعتبره سبينوزا متفوقًا على غرار المقاطعات المتحدة، بينما تختلف توصيات سبينوزا بين هذين النوعين من الأرستقراطية فإنّ العديد من السمات العامة تظل كما هي.

جادل سبينوزا بطريقة ماديونية بدائية بأنّ مجلس الأرستقراطيين يجب أن يكون كبيرًا من أجل تقليل احتمالية الانقسام، كما يدعي أنّ المجلس الكبير سوف يحمي من الحكم الأناني أو غير العقلاني، و كما هو الحال في مناقشة سبينوزا حول الملكية ينصب التركيز هنا على إيجاد آليات توازن بين مصالح المشاركين وتشجع التماسك، وإحدى الطرق المهمة التي يتم بها تشجيع التماسك هي نشر “العقيدة العالمية” أو الدين المدني.

بالنظر إلى أنّه سيكون هناك عمومًا المزيد من الضوابط على السلطة وانتشارًا أكبر للسلطة السياسية في الأرستقراطيات مقارنة بالملكيات فلا ينبغي أن نجد مفاجأة أن يدعي سبينوزا أنّ الأرستقراطيات من المحتمل أن تكون أكثر استقامة من الأنظمة الملكية، ومنذ الدولة “مطلقة” إلى الحد الذي تدمج فيه حقوق جميع أعضائها وتقلل من أساس المعارضة، وهكذا فإنّ المطلق يشير إلى قاعدة تشبه إلى حد كبير السلام والقاعدة المدنية الأساسية، لذلك فإنّ القول بأنّ أحد أشكال النظام هو أكثر من أي شكل آخر هو بمثابة إعلان تفوقه.

بينما يشير سبينوزا بوضوح إلى أنّ الأرستقراطيات بشكل عام وفي معظم الحالات متفوقة على الأنظمة الملكية فإنّ السؤال الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر إزعاجًا إلى حد ما هو كيف تقارن الأرستقراطيات بالديمقراطيات؟، رايا بروخوفنيك على سبيل المثال زعمت أنّ الأرستقراطية هي “شكل الحكومة [سبينوزا] على التفكير الناضج المفضل”.

وأعتقد أنّ هناك أسبابًا قوية لإنكار أنّ الأرستقراطية تحل محل الديمقراطية لدى سبينوزا باعتبارها النظام المفضل لديه، ويشير إلى أنّ انتخاب النبلاء على عكس امتيازات حق المولد للمشاركين في الديمقراطية يمنح الأرستقراطيات ميزة من الناحية النظرية.

ومع ذلك يتم تعويض هذه الميزة من خلال ممارسات الخدمة الذاتية المنحازة لمعظم النبلاء، وبما أنّ سبينوزا يدعي أنّ الديمقراطية هي أكثر أشكال النظام مطلقًا فيبدو أنّ سبينوزا يفضل الديمقراطية، وعلى الرغم من ذلك فإنّ سبينوزا أقل اهتمامًا بأنظمة ترتيب الرتب من اهتمامه بتحديد كيفية تنظيم كل نوع نظام من أجل تعظيم الحرية والصالح العام.

مفهوم ديمقراطية لدى سبينوزا:

كان سبينوزا قد بدأ بالكاد في كتابة أول فصلين حول الديمقراطية عندما توفي في 21 فبراير 1677، ومفهومه للديمقراطية يتضمن أي نظام حكم شعبي يحصل فيه الأعضاء الحاكمون على حق المشاركة بحكم الحالة المدنية وليس عن طريق الانتخاب.

هذا المفهوم للديمقراطية واسع بما يكفي ليشمل حتى المتغيرات من تيموقراطية، ونموذج الديمقراطية لسبينوزا يستثني كل أولئك الذين لا يتمتعون بالقضاء الخاص – مثل النساء والخدم والأجانب – وكذلك أولئك الذين لا يعيشون “حياة محترمة”، وهذه الجوانب النخبوية والاستبعادية لديمقراطية سبينوزا تلوث ما قد يبدو أنّه شكل تقدمي إلى حد ما من الديمقراطية بقدر ما يمكننا الحصول عليه من الملاحظات المنتشرة في جميع أنحاء كتاباته.

من السهل الاستدلال على المضمون العام لديمقراطية سبينوزا من مناقشاته حول الملكية والأرستقراطية وكلاهما يتضمن عناصر ديمقراطية قوية، وما هو مثير للاهتمام بشكل خاص هو كيف يدافع سبينوزا عن هذه السمات الديمقراطية حيث أنّ هذا يعطينا نظرة ثاقبة حول كيفية الدفاع عن الديمقراطيات بشكل عام.

و يبدو أنّ سبينوزا يقدم كل من الحجج المبدئية والفعالة لصالح الديمقراطية، والسبب المبدئي هو أنّ الديمقراطيات تحافظ على المساواة الطبيعية للرجال والحرية الطبيعية، ويتمثل الدفاع الأساسي الرئيسي عن الديمقراطية في أنّه “يوجد سبب أقل في الدولة الديمقراطية للخوف من الإجراءات العبثية”، ويركز سبينوزا بشكل حصري على الدفاع الفعال مسلطًا الضوء على ما يسمى مؤخرًا بالميزة المعرفية للديمقراطية أي ميل المجالس الشعبية إلى التشريع بحكمة أكثر من الهيئات التشريعية الأخرى.

على سبيل المثال يكرر ادعائه بأنّ المجالس الأكبر من المرجح أن تكون عقلانية لأن القرارات الجماعية تجبر الأعضاء على “أن يكون هدفهم هو الشرف أو على الأقل يبدو كذلك”، وهو يدعي أنّ السمات التداولية للهيئات الحاكمة الكبيرة تعمل على تحسين الكفاءة لأنّ “ذكاء الرجال منفرج للغاية بحيث لا يمكن الوصول مباشرة إلى جوهر كل سؤال ولكن بالمناقشة والاستماع إلى الآخرين والمناقشة يتم صقل ذكائهم”.

سبينوزا أيضا يرفض أولئك الذين يدعون أنّه ليس هناك “حقيقة أو حكم في عامة الناس”، مدعيا أنّ “كل الرجال يشتركون في نفس الطبيعة” وأنّ الاختلافات في الكفاءة تنبع في المقام الأول من حقيقة أنّ الجماهير تظل جاهلة بأهم شؤون الدولة، وخلافًا لاقتراح فوير بأنّ أحداثًا مثل قتل دي ويتس أدت إلى تحول مناهض للديمقراطية في فكر سبينوزا، وتكشف هذه المقاطع عمق التزام سبينوزا بالديمقراطية ورفضه تأييد الأطروحة القائلة بأنّ بعض الرجال أكثر ملاءمة للفطرة وتحكم من غيرهم.

مفهوم الملكية لدى سبينوزا:

بالنظر إلى أنّ الهدف الأساسي للدولة هو السلام فإنّ السؤال الذي يسعى سبينوزا إلى معالجته هو كيف يتم تنظيم الملكية بحيث تكون سلمية إلى أقصى حد، ويبدأ بتكرار الادعاء بأنّ الرجال إلى حد كبير غير عقلانيين وأنانيين، وبما أنّه يجب تنظيم عواطف عامة الناس فمن المغري الافتراض، وكما يفعل هوبز أنّ الحكم القاسي مطلوب.
لكن سبينوزا يدعي أنّه حتى لو كان المستبد قادرًا على تقليل العنف والمعارضة فإنّ هذا ينتج فقط “العبودية والهمجية والخراب” وليس نوع السلام أو الاتفاق بين الرجال وهي النهاية الحقيقية للدولة، وفي الواقع يدعي سبينوزا أنّه كلما خُططت السلطة بشكل كامل لرجل واحد كان أسوأ حال الجميع بما في ذلك المستبد نفسه، وذلك لأنّ الملك من المرجح أن يعتني بمصلحته بمفرده متجاهلاً الرفاهية العامة، وهو الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى إضعاف الحضارة.

وللتغلب على هذا الشرط من الضروري أن تكون هناك ضوابط دستورية على سلوك الملك، ويجب أن تُفهم هذه القوانين التأسيسية على أنّها “المراسيم الدائمة” للملك التي تعبر عن مصالحه الحقيقية التي لا يجوز انتهاكها، وإحدى الضوابط الدستورية المركزية هي أنّ الملك يتداول مع مجلس كبير مكون من المواطنين بل ويجيب عليه بشكل ما.

وعلاوة على ذلك بما أنّ أعضاء المجلس هم أيضًا من المحتمل أن يكونوا أنانيين وفاسدين فمن المهم أن ترتبط مصالحهم الخاصة بالصالح العام وكما يقول ماكشيا فإنّ الدولة التي تم تشكيلها بشكل صحيح ستكون مثل “آلية التماثل الساكن” وتصحح الميول الخلافية أو المدمرة من خلال ضمان أن مصالح الفرد مرتبطة دائمًا بمصالح الآخرين.

في نهاية المطاف سيكون النظام الملكي النموذجي ملكية دستورية تشبه إلى حد كبير الديمقراطية، ويتناسب هذا مع اقتراح ماثيرون أنّه نظرًا لأنّ سلطة الدولة تستند أساسًا إلى سلطة الشعب فإنّ تلك الدول التي تنحرف على الأقل عن الديمقراطية ستكون أقوى، ومع ذلك فإنّ حقيقة أنّ سبينوزا أيّد إمكانية “أن يحافظ الشعب على قدر كبير من الحرية في ظل الملك”.


شارك المقالة: