اقرأ في هذا المقال
تهتم فلسفة ثيودور أدورنو الأخلاقية بتأثيرات التنوير على كل من احتمالات عيش الأفراد حياة جيدة أخلاقياً، وقدرة الفلاسفة على تحديد ما قد تتكون منه هذه الحياة، ويجادل أدورنو بأنّ استغلال العقل قد قوض كليهما بشكل أساسي، كما يجادل بأنّ الحياة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة لم تعد متماسكة حول مجموعة من الحقائق الأخلاقية التي يتبناها على نطاق واسع، وأنّ المجتمعات الحديثة تفتقر إلى الأساس الأخلاقي.
فلسفة أدورنو لمفهوم العدمية:
إنّ ما حل محل الأخلاق باعتبارها دعامة متكاملة للحياة الاجتماعية هو التفكير الأداتي وانكشاف الجميع على السوق الرأسمالية، ووفقا لأدورنو فإنّ المجتمعات الرأسمالية الحديثة هي في جوهرها عدمية في طبيعتها، ولقد تم التخلي عن فرص عيش حياة كريمة أخلاقياً وحتى التعرف والدفاع عن الشروط المطلوبة لحياة جيدة أخلاقياً إلى التفكير الأداتي والرأسمالية.
في العالم العدمي لا تتمتع المعتقدات الأخلاقية والتفكير الأخلاقي بأي سلطة عقلانية في نهاية المطاف، أي يُنظر إلى الادعاءات الأخلاقية على أنّها في أحسن الأحوال عبارات ذاتية بطبيعتها، ولا تعبر عن خاصية موضوعية للعالم بل عن تحيزات الفرد، ويتم تقديم الأخلاق على أنّها تفتقر إلى أي أساس موضوعي عام، وبالتالي يُفهم تبني معتقدات أخلاقية معينة على أنّه أداة لتأكيد المصالح الجزئية للفرد، وقد تم تصنيف الأخلاق من خلال التفكير الأداتي، ويحاول أدورنو تحليل هذه الحالة بشكل نقدي، حيث إنّه ليس عدميًا بل ناقدًا للعدمية.
فلسفة أدورنو بين الأخلاق والعدمية:
يعتمد تفسير أدورنو للعدمية في جزء كبير منه على فهمه للعقل وكيف أصبحت المجتمعات الحديثة تتصور المعرفة المشروعة، ويجادل بأنّ الأخلاق قد وقعت ضحية للتمييز بين المعرفة الموضوعية والذاتية، وتتكون المعرفة الموضوعية من حقائق يمكن التحقق منها تجريبياً حول الظواهر المادية، بينما تتكون المعرفة الذاتية من كل ما تبقى بما في ذلك أشياء مثل البيانات التقييمية والمعيارية حول العالم.
من وجهة النظر هذه فإنّ عبارة مثل: “أنا أجلس على مكتب بينما أكتب هذا المقال”، وهي من فئة مختلفة عن العبارة: “الإجهاض خطأ أخلاقيًا”، فالبيان الأول قابل للتحقق التجريبي في حين أنّ الأخير هو تعبير عن اعتقاد شخصي، ويجادل أدورنو بأنّ المعتقدات الأخلاقية والتفكير الأخلاقي قد اقتصرت على مجال المعرفة الذاتية، ويجادل بأننا تحت قوة استغلال العقل والوضعية، وتوصلنا إلى تصور الكيانات الوحيدة الموجودة بشكل هادف كحقائق يمكن التحقق منها تجريبياً أي بيانات حول بنية الواقع ومضمونه.
في المقابل تُحرم القيم والمعتقدات الأخلاقية من مثل هذه المكانة، وبالتالي يُنظر إلى الأخلاق على أنّها ضارة بطبيعتها، لذلك على سبيل المثال يبدو أنّه لا توجد طريقة يمكن من خلالها حل النزاعات بين المعتقدات والقيم الأخلاقية الموضوعية المتضاربة بشكل موضوعي وعقلاني، وفي ظل حالة العدمية لا يمكن للمرء أن يميّز بين المعتقدات والقيم الأخلاقية الصحيحة إلى حد ما لأنّ المعايير التي تسمح بمثل هذه الفروق التقييمية قد تم استبعادها من مجال المعرفة الذاتية.
يجادل أدورنو بأنّه في ظل الظروف العدمية أصبحت الأخلاق وظيفة أو أداة للقوة، ومقياس تأثير أي رؤية أخلاقية معينة هو تعبير عن المصالح المادية التي تكمن وراءها، ومن المثير للاهتمام أنّ أدورنو يعرّف تأثيرات العدمية على أنّها تمتد إلى المحاولات الفلسفية للدفاع العقلاني عن الأخلاق والتفكير الأخلاقي، وبالتالي دعماً لحجته فهو لا يعتمد على مجرد الإشارة إلى مدى التنوع الأخلاقي والصراع في المجتمعات الحديثة، كما أنّه لا يضع قضيته على أولئك الذين باسم بعض التفسيرات الراديكالية للحرية الفردية يعتنقون بشكل إيجابي العدمية.
الفلسفة الأخلاقية بين أدورنو وكانط:
في الواقع إنّ أدورنو يحدد آثار العدمية في الفلسفة الأخلاقية نفسها مع إيلاء اهتمام خاص للنظرية الأخلاقية لإيمانويل كانط، ويجادل أدورنو بأنّ تفسير كانط للقانون الأخلاقي يوضح إلى أي مدى تم تقليص الأخلاق إلى حالة المعرفة الذاتية، حيث يحاول كانط بالتأكيد إنشاء أساس للأخلاق من خلال استبعاد جميع الادعاءات الأخلاقية الموضوعية، والمزاعم المتعلقة بالصلاح الأخلاقي لهذه الممارسة أو تلك أو طريقة الحياة.
يسعى كانط في نهاية المطاف إلى تأسيس تفكير أخلاقي صحيح على سلسلة من القواعد الإجرائية الرسمية تمامًا أو القواعد التي تستبعد حتى السعي وراء السعادة البشرية كمكوِّن شرعي للتفكير الأخلاقي، وينتقد أدورنو كانط لإفراغه القانون الأخلاقي من أي إشارة إلى المفاهيم الموضوعية لرفاهية الإنسان أو (الحياة الجيدة).
في نهاية المطاف تمت إدانة كانط لاعتناقه تفسيرًا للتفكير الأخلاقي يكون رسميًا وخاليًا من أي مكونات أخلاقية جوهرية باعتباره تفكيرًا فعالًا، ولم يكن الدافع وراء نقد أدورنو لكانط هو أنّ كانط قد طور مثل هذا الحساب للأخلاق، حيث أنّ هذا كان وفقًا لأدورنو إلى حد كبير مسبوقًا بالظروف المادية لزمان كانط ومكانه، ولكنه فشل على وجه التحديد في القيام بذلك وتحديد آثار هذه الظروف، وبذلك فشل في تمييز إلى أي مدى تقدم فلسفته الأخلاقية تأكيدًا وليس نقدًا لمثل هذه الشروط، وكانط من بين كل الناس محكوم عليه لأنّه لم يكن انعكاسيًا بما فيه الكفاية.
على عكس بعض المفكرين والفلاسفة الآخرين في ذلك الوقت، لا يعتقد أدورنو أنّ العدمية يمكن التغلب عليها بمجرد فعل الإرادة أو ببساطة عن طريق تأكيد بعض الرؤية الأخلاقية الموضوعية للحياة الجيدة، وإنّه لا يسعى إلى الإبحار فلسفيًا حول المدى الذي أصبحت فيه الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالطبيعة المحتملة لـ (الحياة الجيدة) إشكالية للغاية بالنسبة لنا، كما أنّه لا يحاول تقديم إثبات فلسفي لهذا الشرط.
إنّ أدورنو يجادل بأنّ العقل أصبح متشابكًا مع الهيمنة وتطور كمظهر من مظاهر محاولة السيطرة على الطبيعة، وهكذا يعتبر أدورنو أنّ العدمية هي نتيجة للهيمنة وصية وإنّ كانت بالمعنى السلبي إلى المدى الذي لم تعد فيه المجتمعات البشرية مفتونة، على سبيل المثال بالرؤى الأخلاقية المتجذرة في بعض المفاهيم الطبيعية لرفاهية الإنسان.
بالنسبة لأدورنو كانت هذه العملية شاملة وكاملة لدرجة أننا لم نعد قادرين على تحديد المقومات الضرورية للحياة الجيدة بشكل رسمي، لأنّ الوسائل الفلسفية للقيام بذلك قد أفسدتها سيطرة الطبيعة واستغلال العقل كأداة، وبالتالي فإنّ دور المُنظِّر النقدي هو عدم الترويج بشكل إيجابي لبعض الرؤى البديلة والتي يُزعم أنّها أكثر عدلاً لنظام اجتماعي وسياسي قائم على أسس أخلاقية.
هذا من شأنه أن يتجاوز بكثير الحدود الحالية لإمكانات العقل، وبدلاً من ذلك يجب أن يهدف المنظر النقدي بشكل أساسي إلى الحفاظ على الوعي، وتعزيزه بصدور مثل هذه الظروف ومدى إمكانية تغيير هذه الظروف، وإنّ تفسير أدورنو إلى حد ما للأخلاق في المجتمعات الحديثة ينبع من حجته بأنّ مثل هذه المجتمعات مفتونة بالمنطق الأداتي وإعطاء الأولوية لـ (الحقائق الموضوعية)، حيث تعمل العدمية على إحباط قدرة الأخلاق بشكل أساسي على فرض قيود موثوقة على تطبيق العقل الأداتي.