فلسفة أدورنو في النظرية الجمالية

اقرأ في هذا المقال


تشكل الدراسات الفلسفية والاجتماعيةللفنون والأدب أكثر من نصف أعمال الفيلسوف ثيودور أدورنو المجمعة (Gesammelte Schriften)، تظهر جميع ادعاءات أدورنو النظرية الاجتماعية الأكثر أهمية في كتاباته المجمعة، ومع ذلك فإنّ كتاباته الجمالية ليست مجرد تطبيقات أو حالات اختبار لأطروحات تم تطويرها في نصوص غير جمالية، حيث يرفض أدورنو أي فصل من هذا القبيل للموضوع عن المنهجية وكل التقسيمات الدقيقة للفلسفة إلى تخصصات فرعية متخصصة.

نظرية أدورنو الجمالية:

نهج أدورتو لرفض تقسيمات الفلسفة يعد أحد الأسباب التي جعلت الأكاديميين المتخصصين يجدون نصوصه صعبة للغاية، ليس فقط علماء الموسيقى والنقاد الأدبيين ولكن أيضًا علماء المعرفة وعلماء الجمال، وتساهم جميع كتاباته في فلسفة اجتماعية شاملة ومتعددة التخصصات.

نُشر لأول مرة بعد عام من وفاة أدورنو، وتمثل النظرية الجمالية تتويجًا غير مكتمل لجسده الغني بشكل ملحوظ من الانعكاسات الجمالية، وإنّه يلقي الضوء بأثر رجعي على الجسم بأكمله، كما أنّه أقرب إلى نموذج العرض المجاري الذي وجده أدورنو المستوحى بشكل خاص من والتر بنجامين الأكثر ملاءمة لفلسفته الذاتية، وتقوم النظرية الجمالية التي تتبع بلا هوادة للدوائر متحدة المركز بإعادة بناء ديالكتيكية مزدوجة.

يعيد بناء حركة الفن الحديث من منظور الجماليات الفلسفية، وإنّه يعيد بناء الجماليات الفلسفية في نفس الوقت وخاصة جماليات كانط وهيجل من منظور الفن الحديث، ويحاول أدورنو من كلا الجانبين استنباط الأهمية الاجتماعية والتاريخية للفن والفلسفة، وتنبع ادعاءات أدورنو عن الفن بشكل عام من إعادة بناء حركة الفن الحديث، ولذا فإنّ ملخص فلسفته في الفن يحتاج أحيانًا إلى الإشارة إلى ذلك بوضع كلمة حديث بين قوسين، ويبدأ الكتاب وينتهي بتأملات في الطابع الاجتماعي للفن (الحديث).

هناك موضوعان يبرزان في هذه التأملات وهما:

1- أحدهما هو سؤال هيغلي محدث عما إذا كان الفن يمكن أن يستمر في العالم الرأسمالي المتأخر.

2- الآخر هو سؤال ماركسي محدث عما إذا كان الفن يمكن أن يساهم في تحول هذا العالم.

عند معالجة كلا السؤالين يحتفظ أدورنو من كانط بالمفهوم القائل بأنّ الفن السليم -الفنون الجميلة أو الفن الجميل (schöne Kunst) في مفردات كانط- يتميز بالاستقلالية الشكلية، ولكن أدورنو يدمج هذا التركيز الكانطي على الشكل مع تأكيد هيجل على الاستيراد الفكري (geistiger Gehalt)، وتأكيد ماركس على اندماج الفن في المجتمع ككل، والنتيجة هي وصف معقد للضرورة والوهم المتزامنين لاستقلالية العمل الفني، والاستقلالية الضرورية والخادعة للعمل الفني بدورها، وهي مفتاح الطابع الاجتماعي للفن (الحديث)، أي أن يكون النقيض الاجتماعي للمجتمع.

يعتبر أدورنو الأعمال الأصيلة للفن (الحديث) بمثابة أحاديات اجتماعية، فالتوترات التي لا مفر منها داخلها تعبر عن صراعات لا مفر منها داخل العملية الاجتماعية التاريخية الأوسع، والتي نشأت منها والتي تنتمي إليها، وتدخل هذه التوترات في العمل الفني من خلال صراع الفنان مع المواد المحملة اجتماعيًا وتاريخيًا، وهي تستدعي تفسيرات متضاربة يخطئ الكثير منها إما في قراءة التوترات الداخلية بين العمل أو ارتباطها بالصراعات في المجتمع ككل، فيرى أدورنو كل هذه التوترات والصراعات على أنّها تناقضات يجب حلها في نهاية المطاف.

ومع ذلك فإنّ حلها الكامل يتطلب تحولًا في المجتمع ككل، والذي لا يبدو وشيكًا بالنظر إلى نظريته الاجتماعية، كتعليق ونقد فإنّ الكتابات الجمالية لأدورنو لا مثيل لها في الدقة والتطور اللذان تتبعهما توترات العمل الداخلية وربطها بصراعات اجتماعية تاريخية لا مفر منها، ويحصل المرء على لمحات متكررة من هذا في النظرية الجمالية، ومع ذلك فإنّ الجزء الأكبر من الكتاب يتقدم على مستوى الانعكاسات الثالثة، وتأملات في الفئات المستخدمة في التعليق والنقد الفعليين بهدف ملاءمتها لما تعبر عنه الأعمال الفنية وآثارها المجتمعية، وعادةً ما يشرح هذه الفئات كأقطاب أو أزواج ديالكتيكية.

فلسفة أدورنو الجمالية في فئات الاستيراد:

أحد هذه القطبية المركزية في نظرية أدورنو للأعمال الفنية باعتبارها أحادية اجتماعية، تحدث بين فئات الاستيراد (Gehalt) والوظيفة (Funktion)، ويميّز وصف أدورنو عن هذه الفئات علم اجتماع الفن عن كل من المقاربتين التأويلية والتجريبية، وقد يؤكد النهج التأويلي على المعنى المتأصل للعمل الفني أو أهميته الثقافية ويقلل من أهمية الوظائف السياسية أو الاقتصادية للعمل الفني.

من شأن النهج التجريبي أن يبحث في الروابط السببية بين العمل الفني والعوامل الاجتماعية المختلفة دون طرح أسئلة تأويلية حول معناها أو أهميتها، على النقيض من ذلك يجادل أدورنو بأنّه كفئة وكظاهرة يجب فهم الاستيراد والوظيفة من حيث كل منهما الآخر، من ناحية أخرى يمكن أن يكون استيراد العمل الفني ووظائفه في المجتمع متعارضين تمامًا.

من ناحية أخرى لا يمكن للمرء أن يعطي وصفًا مناسبًا للوظائف الاجتماعية للعمل الفني إذا لم يطرح المرء أسئلة متعلقة بالاستيراد حول أهميتها، كذلك أيضًا يجسد استيراد العمل الفني الوظائف الاجتماعية للعمل وله صلة محتملة بالسياقات الاجتماعية المختلفة، بشكل عام ومع ذلك وتماشياً مع انتقاداته للوضعية والعقل الأداتي، ويعطي أدورنو الأولوية للاستيراد الذي يُفهم على أنّه معنى بوساطة مجتمعية وذات أهمية اجتماعية.

إنّ الوظائف الاجتماعية التي أكد عليها في تعليقاته وانتقاداته هي في الأساس وظائف فكرية وليست وظائف سياسية أو اقتصادية مباشرة، ويتفق هذا مع نسخة زائدية من الادعاء بأنّ الفن (الحديث) هو النقيض الاجتماعي للمجتمع: “بقدر ما يمكن التنبؤ بوظيفة اجتماعية للأعمال الفنية فهي عاطلة عن العمل”.

تُعلِم أولوية الاستيراد أيضًا موقف أدورنو من الفن والسياسة، والذي ينبع من المناقشات مع لوكاش وبنيامين وبيرتولت بريخت في الثلاثينيات، وبسبب التحول في هيكل الرأسمالية وبسبب تركيز أدورنو المعقد على استقلالية الفن (الحديث)، فإنّه يشك في كل من فعالية وشرعية الفن المغرض أو التحريض أو الذي يرفع الوعي عن قصد.

ومع ذلك فهو يرى الفن الملتزم سياسيًا على أنّه تصحيح جزئي للجمالية المفلسة للفن السائد، في ظل ظروف الرأسمالية المتأخرة فإنّ الفن الأفضل والأكثر فاعلية من الناحية السياسية، يعمل بدقة على حل التناقضات الداخلية الخاصة به بحيث لا يمكن تجاهل التناقضات الخفية في المجتمع بعد الآن، وتعتبر مسرحيات صمويل بيكيت الذي كان أدورنو ينوي تكريس النظرية الجمالية له رمزية في هذا الصدد، ويجدها أدورنو أكثر واقعية من العديد من الأعمال الفنية الأخرى.

يمكن القول إنّ فكرة محتوى الحقيقة (Wahrheitsgehalt) هي المركز المحوري الذي تدور حوله جميع الدوائر متحدة المركز لجماليات أدورنو، وللوصول إلى هذا المركز يجب على المرء أن يوقف مؤقتًا النظريات المعيارية حول طبيعة الحقيقة (سواء كانت مراسلات أو تماسكًا أو نجاحًا عمليًا)، والسماح للحقيقة الفنية بأنّ تكون جدلية وكشفية وغير مقترنة.

وفقًا لأدورنو كل عمل فني له استيراده الخاص (Gehalt) بحكم جدلية داخلية بين المحتوى (Inhalt) والشكل (Form)، ويستدعي هذا الاستيراد إصدار أحكام انتقادية حول حقيقته أو زيفه، ولإنصاف العمل الفني واستيراده تحتاج مثل هذه الأحكام النقدية إلى فهم الديناميكيات الداخلية المعقدة للعمل الفني وديناميكيات الكلية الاجتماعية التاريخية التي ينتمي إليها العمل الفني، ويحتوي العمل الفني على محتوى حقيقة داخلي إلى الحد الذي يمكن فيه العثور على استيراد العمل الفني داخليًا وخارجيًا إما صحيحًا أو خطأ.

محتوى الحقيقة هذا ليس فكرة ميتافيزيقية أو جوهر يحوم خارج العمل الفني ولكنها ليست مجرد بناء بشري، وإنّها تاريخية ولكنها ليست اعتباطية وغير مقترح ومع ذلك يدعو إلى تقديم مطالبات مقترحة حول هذا الموضوع، وطوباوية في متناولها ولكنها مرتبطة بشدة بظروف مجتمعية محددة، فمحتوى الحقيقة هو الطريقة التي يتحدى بها العمل الفني في نفس الوقت الطريقة التي تسير بها الأشياء ويقترح كيف يمكن أن تكون الأشياء أفضل، لكنه يترك الأشياء عمليًا دون تغيير: “للفن الحقيقة مثل مظهر بلا وهم”.


شارك المقالة: