فلسفة أدورنو في صناعة الثقافة

اقرأ في هذا المقال


كان ثيودور أدورنو فيلسوفًا غير تقليدي للغاية، حيث كتب مجلدات عن موضوعات فلسفية مثل العقل والأخلاق، وقام أيضًا بتوسيع كتاباته وتركيزه النقدي ليشمل الترفيه الجماعي، وحلل أدورنو الظواهر الاجتماعية باعتبارها مظاهر الهيمنة، وبالنسبة له يشترك كل من النص الفلسفي الأكثر تجريدًا والفيلم أو التسجيل أو البرنامج التلفزيوني الأكثر قابلية للاستهلاك في هذا التشابه الأساسي.

مفهوم صناعة الثقافة لأدورنو:

كان أدورنو فيلسوفًا أخذ الترفيه الجماعي على محمل الجد، وكان من بين أوائل الفلاسفة والمفكرين الذين أدركوا القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحتملة لصناعة الترفيه، كما رأى أدورنو ما أشار إليه بـ (صناعة الثقافة) على أنّها تشكل مصدرًا رئيسيًا للهيمنة داخل المجتمعات الرأسمالية المعقدة، ويهدف إلى إظهار أنّ مجالات الحياة التي يعتقد الكثير من الناس أنّهم أحرار حقًا فيها تديم الهيمنة في الواقع من خلال إنكار الحرية وعرقلة تطور الوعي النقدي.

إن مناقشة أدورنو لصناعة الثقافة لا لبس فيها في تصويرها للمجتمعات الاستهلاكية على أنّها قائمة على الإنكار المنهجي للحرية الحقيقية، فما هي صناعة الثقافة، وكيف يدافع أدورنو عن رؤيته لها؟

وصف أدورنو صناعة الثقافة بأنّها آلية تكاملية رئيسية لإلزام الأفراد كمستهلكين ومنتجين بالمجتمعات الرأسمالية الحديثة، حيث جادل العديد من علماء الاجتماع بأنّ المجتمعات الرأسمالية المعقدة مجزأة وغير متجانسة في طبيعتها، ويصر أدورنو على أنّ صناعة الثقافة على الرغم من التنوع الواضح للسلع الثقافية تعمل على الحفاظ على نظام موحد، ويجب على الجميع الالتزام به.

قلة هم الذين يستطيعون إنكار دقة وصف القطاعات المهيمنة في الإنتاج الثقافي على أنّها مؤسسات تجارية رأسمالية، وصناعة الثقافة هي مؤسسة عالمية بمليارات الدولارات مدفوعة في المقام الأول بالسعي وراء الربح، فما تنتجه صناعة الثقافة هو وسيلة لتحقيق الربح مثل أي مشروع تجاري.

حتى هذه النقطة قلة هم الذين يمكن أن يجادلوا في وصف أدورنو لصناعة الترفيه الجماعي، ومع ذلك فإنّ فكرة أدورنو المحددة عن صناعة الثقافة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث يجادل أدورنو بأنّ اندماج الأفراد في صناعة الثقافة له تأثير أساسي في تقييد تطوير الوعي النقدي للظروف الاجتماعية التي تواجهنا جميعًا.

فلسفة أدورنو في صناعة الثقافة والتطور النفسي:

تعزز صناعة الثقافة الهيمنة من خلال تخريب التطور النفسي للجماهير في المجتمعات الرأسمالية المعقدة، وهذا هو الجانب المثير للجدل حقًا في رؤية أدورنو لصناعة الثقافة، فكيف يدافع عنها؟ ويجادل أدورنو بأنّ السلع الثقافية تخضع لنفس القوى الميكانيكية المبررة آليًا والتي تعمل على السيطرة على حياة الأفراد العملية، ومن خلال هيمنتنا على الطبيعة وتطوير أشكال متطورة تقنيًا للآلات الإنتاجية أصبحنا أهدافًا لنظام من صنعنا.

أي شخص عمل في خط إنتاج أو في مركز اتصال هاتفي يجب أن يكون لديه بعض التقدير للمطالبة المقدمة، ومن خلال الزيادة الهائلة في حجم ونطاق السلع المنتجة تحت رعاية صناعة الثقافة يتعرض الأفراد بشكل متزايد لنفس الظروف الأساسية، والتي يتم من خلالها الحفاظ على الرأسمالي المعقد وإعادة إنتاجه، وبذلك يتم طمس التمييز النوعي بين العمل والترفيه والإنتاج والاستهلاك.

وفقًا لأدورنو فإن التعرض المنهجي لصناعة الثقافة (ومن يمكنه الهروب منها لفترة طويلة في عصر الإعلام هذا؟) له تأثير أساسي في تهدئة المستهلكين، ويتم تقديم المستهلكين على أنّهم محرومون من أي فرص حقيقية للمساهمة بنشاط في إنتاج السلع التي يتعرضون لها، وبالمثل يصر أدورنو على أنّ شكل ومحتوى السلع المحددة نفسها سواء كان ذلك تسجيلًا أو فيلمًا أو عرضًا تلفزيونيًا، لا يتطلبان دورًا تفسيريًا نشطًا من جانب المستهلك: كل ما يُطلب من المستهلكين هو شراء بضائع.

يحدد أدورنو أصول تأثيرات التهدئة للسلع الثقافية في ما يراه على أنّه التوحيد الأساسي لهذه السلع وهو توحيد يناقض اختلافاتهم الظاهرة، ويتصور أدورنو صناعة الثقافة باعتبارها مظهرًا من مظاهر التفكير الهويتي وباعتبارها تتأثر من خلال تطبيق تقنيات إنتاجية مبررة آليًا، حيث يقدم صناعة الثقافة على أنّها تشتمل على تكرار لا نهاية له لنفس الشكل السلعي.

ويجادل بأنّ المجموعة المتنوعة ظاهريًا للسلع المنتجة والمستهلكة تحت رعاية صناعة الثقافة، مستمدة في الواقع من قائمة محدودة وموحدة بشكل أساسي من السمات والتركيبات القابلة للتبديل، وهكذا فإنّه يعرض الخصائص الهيكلية للسلع المنتجة والمتبادلة في صناعة الثقافة على أنّها موحدة بشكل متزايد وصيغة ومتكررة في طبيعتها، ويجادل بأنّ الطابع المعياري للسلع الثقافية ناتج عن الطبيعة الآلية بشكل متزايد لإنتاج وتوزيع واستهلاك هذه السلع.

الموسيقى وفلسفة أدورنو في صناعة الثقافة:

تحليلات أدورنو لقطاعات معينة من صناعة الثقافة واسعة النطاق، ومع ذلك كان مجال تخصصه الرئيسي واهتمامه الموسيقى، فحلل أدورنو إنتاج الموسيقى واستهلاكها كوسيلة يمكن للمرء من خلالها تمييز السمات والآثار الرئيسية لصناعة الثقافة وتسليع الثقافة، والادعاء المركزي الكامن وراء تحليل أدورنو للموسيقى هو أنّ امتداد تقنيات الإنتاج الصناعي قد غيّر هيكل السلع الموسيقية والطريقة التي يتم تلقيها بها.

جادل أدورنو بأنّ إنتاج الموسيقى الصناعية يتميز بقائمة موحدة للغاية من الأساليب والموضوعات الموسيقية والتي يتم بموجبها إنتاج السلع، وتتطلب المواجهة المستمرة لظواهر موسيقية مألوفة ومبسطة من الناحية التركيبية أن يحتاج الجمهور إلى بذل القليل من الجهد التفسري في استقباله للمنتج، ويقدم أدورنو مثل هذه السلع الموسيقية على أنّها تتكون من مقطوعات ثابتة تثير ردود فعل ثابتة إلى حد كبير لا تعكسها.

يستند أدورنو إلى تمييز سبق أن أجراه كانط في صياغته للاستقلالية الشخصية، وبالتمييز بين النضج وعدم النضج يكرر أدورنو الادعاء الكانطي بأنّ الاستقلال الذاتي هو أن تكون ناضجًا وقادرًا على ممارسة حكم الفرد التقديري واتخاذ قراراته الخاصة بنفسه، وجادل أدورنو بأنّ التأثير الرئيسي لتوحيد الموسيقى هو تعزيز حالة عامة من عدم النضج، وإحباط وحظر ممارسة أي كليات نقدية أو انعكاسية في تفسير المرء للظواهر المعنية.

علم التنجيم وفلسفة أدورنو في صناعة الثقافة:

اعتبر أدورنو إنتاج واستهلاك السلع الموسيقية نموذجًا يحتذى به في صناعة الثقافة بشكل عام، وقام أيضًا بتوسيع نطاق تحليله ليشمل مجالات أخرى من صناعة الثقافة مثل التلفزيون وحتى أعمدة علم التنجيم، حيث أجرى أدورنو تحليلًا نصيًا نقديًا لعمود التنجيم في صحيفة لوس أنجلوس تايمز، وكان هدفه تحديد الوظيفة العقلانية للمؤسسة الثقافية نفسها، وهكذا أخذ علم التنجيم على محمل الجد.

لقد اعتبر التنجيم أحد أعراض المجتمعات الرأسمالية المعقدة، وتم تمييزه في النداء الواسع النطاق لعلم التنجيم، وإن كان غير نقدي وغير انعكاسي إلى أي مدى تظل حياة الأفراد مشروطة بشكل أساسي بقوى خارجية غير شخصية لا يتحكم فيها الأفراد كثيرًا، ويتم إسقاط المجتمع عن غير قصد على النجوم، ووفقًا لأدورنو يساهم علم التنجيم في موقف فتشي متغلغل في الوقت نفسه تجاه الظروف التي تواجه حياة الأفراد بالفعل، من خلال الترويج لرؤية الحياة البشرية على أنّها تحددها قوى خارجة عن سيطرتنا النهائية.

وبدلاً من وصف علم التنجيم بأنّه غير عقلاني في طبيعته، جادل أدورنو بأنّ الطابع العقلاني الفعال للمجتمعات الرأسمالية المعقدة يعمل في الواقع على منح علم التنجيم درجة من العقلانية، وذلك فيما يتعلق بتزويد الأفراد بوسائل لتعلم العيش في ظروف خارجة عن سيطرتهم الظاهرة، ويصف علم التنجيم بأنّه: “أيديولوجية للاعتماد كمحاولة لتقوية وتبرير الظروف المؤلمة بطريقة ما والتي تبدو أكثر قابلية للتحمل إذا تم اتخاذ موقف إيجابي تجاهها”.

بالنسبة لأدورنو لا يوجد مجال واحد من صناعة الثقافة كافٍ لضمان التأثيرات التي حددها على أنّها تؤثر بشكل عام على وعي الأفراد وحياتهم، ومع ذلك عندما يتم أخذها بالكامل فإنّ الوسائط المتنوعة لصناعة الثقافة تشكل شبكة حقيقية يتم فيها بشكل منهجي إعاقة الظروف، على سبيل المثال لقيادة حياة مستقلة ولتطوير القدرة على التفكير النقدي في الذات والظروف الاجتماعية للفرد.

وفقًا لأدورنو تحظر صناعة الثقافة بشكل أساسي تطوير الاستقلالية عن طريق الدور الوسيط الذي تلعبه قطاعاتها المختلفة في تكوين وعي الأفراد بالواقع الاجتماعي، ويتم تعريف شكل ومحتوى صناعة الثقافة بشكل خاطئ على أنّه تعبير حقيقي عن الواقع، أي يأتي الأفراد إلى إدراك وتصور الواقع من خلال الشكل المحدد مسبقًا لصناعة الثقافة.

يفهم أدورنو صناعة الثقافة على أنّها مكون أساسي لشكل متجدد من الطبيعة الثانية، والذي يقبله الأفراد كنظام اجتماعي منظم مسبقًا، ويجب أن يتوافقوا معه ويتكيفوا معه، وقد تكون السلع التي تنتجها صناعة الثقافة نفايات، ولكن آثارها على الأفراد خطيرة للغاية.


شارك المقالة: