تناقش حنة أرندت في كتابها الحالة البشرية تقسيمًا ثلاثيًا بين الأنشطة البشرية للعمل والمهنة والنشاط، وعلاوة على ذلك فهي ترتب هذه الأنشطة في تسلسل هرمي تصاعدي للأهمية، وتحدد انقلاب هذا التسلسل الهرمي باعتباره مركزًا لكسوف الحرية والمسؤولية السياسية، والتي أصبحت بالنسبة لها من سمات العصر الحديث.
العمل والإنسانية:
العمل هو ذلك النشاط الذي يتوافق مع العمليات البيولوجية وضرورات الوجود البشري، والممارسات الضرورية للحفاظ على الحياة نفسها، ويتميز العمل بطابعه الذي لا ينتهي بحيث لا يخلق شيئًا من الدوام ويتم استهلاك جهوده بسرعة، وبالتالي يجب تجديده باستمرار من أجل الحفاظ على الحياة.
في هذا الجانب من وجودها تكون البشرية هي الأقرب إلى الحيوانات، وبالتالي بمعنى كبير أقل البشر، أي ما يشاركه الرجال هكذا مع جميع أشكال الحياة الحيوانية الأخرى فهو لا يعتبر إنسانًا، وفي الواقع تشير أرندت إلى البشرية في هذا الوضع على أنّها عمال حيوانيون، ولأن نشاط العمل يُطلب بالضرورة فإنّ الكائن البشري كعامل يعادل العبد بحيث يتميز العمل بعدم الحرية.
تجادل أرنت في أنّ الاعتراف بالعمل على أنّه مخالف للحرية وبالتالي لما هو إنساني مميز، وهو الذي يقوم على أساس مؤسسة العبودية بين الإغريق القدماء، حيث كانت محاولة لاستبعاد العمل من ظروف الحياة البشرية، وفي ضوء هذا التوصيف للعمل ليس من المستغرب أن تنتقد أرنت بشدة رفع ماركس للعمال الحيوانيين إلى موقع الأسبقية في رؤيته لأعلى غايات الوجود البشري.
بالاعتماد على التمييز الأرسطي بين (oikos) أي المجال الخاص للأسرة من (polis) أي المجال العام للمجتمع السياسي، تجادل أرندت بأنّ مسائل العمل والاقتصاد وما شابهها تنتمي بشكل صحيح إلى الأول وليس الأخير، وإن ظهور العمل الضروري لاهتمامات الخاصة لـ(oikos) في المجال العام وهو ما تسميه أرنت (الصعود الاجتماعي)، التي لها تأثير تدمير السياسي المناسب من خلال إخضاع المجال العام لحرية الإنسان لمخاوف مجرد ضرورة حيوانية.
وإنّ إعطاء الأولوية للاقتصاد الذي شهد صعود الرأسمالية قد طغى بالنسبة لأرنت على إمكانيات الفاعلية السياسية ذات المعنى، والسعي لتحقيق غايات أعلى والتي ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للحياة العامة.
المهنة والإنسانية مثل هومو فابر:
إذا كان العمل يتعلق بالبعد الطبيعي والمطلوب بيولوجيًا للوجود البشري، فإنّ المهنة هو النشاط الذي يتوافق مع عدم طبيعية الوجود البشري، والذين لا يتم تعويض موتهم من خلال دورة حياة الأنواع المتكررة باستمرار، وتتوافق المهنة (كالتقني) مع تصنيع عالم مصطنع من الأشياء، وإنشاءات مصطنعة تدوم مؤقتًا إلى ما بعد فعل الخلق نفسه.
وهكذا فإنّ المهنة تخلق عالماً متميزاً عن أي شيء معطى في الطبيعة، وعالم يتميز بمتانته وشبه ديمومة واستقلاله النسبي عن الفاعلين الفرديين والأفعال التي تستدعيه إلى الوجود، والبشرية في هذا النمط من نشاطها تسميهم أرنت بالإنسان هومو فابر (Homo faber)، بحيث هو أو هي منشئ جدران (المادية والثقافية على حد سواء)، والتي تفصل عالم الإنسان عن عالم الطبيعة وتوفر سياقًا مستقرًا (عالم مشترك)، للمساحات والمؤسسات التي يمكن أن تتكشف فيها الحياة البشرية.
ممثلو (Homo faber) النموذجيون هم من مثل الباني والمهندس المعماري والحرفي والفنان والمشرع، بحيث قاموا بإنشاء العالم العام ماديًا ومؤسسيًا من خلال تشييد المباني وسن القوانين.
الفرق بين العمل والمهنة في فلسفة أرنت:
يجب أن يكون واضحًا أنّ المهنة تتميز بتمييز واضح عن العمل في عدد من الطرق ومنها:
1- يرتبط العمل بمتطلبات الحياة والأحياء والطبيعة، أمّا المهنة تنتهك عالم الطبيعة من خلال تشكيله وتحويله وفقًا لخطط واحتياجات البشر، وهذا يجعل العمل نشاطًا بشريًا واضحًا (أي غير حيواني).
2- نظرًا لأنّ المهنة تحكمها غايات ومقاصد بشرية، فهي تخضع لسيادة البشر وسيطرتهم، وهذا يُظهر نوعًا معينًا من الحرية على عكس العمل الخاضع للطبيعة والضرورة.
3- يهتم العمل بتلبية احتياجات حياة الفرد وبالتالي يظل شأنًا خاصًا بشكل أساسي، بينما تكون المهنة عامة بطبيعتها، حيث إنّها تخلق عالماً موضوعياً ومشتركاً يقف بين البشر ويوحدهم.
وفي حين أنّ المهنة ليست نمط النشاط البشري الذي يتوافق مع السياسة، فإنّ تلفيقها مع ذلك هو الشروط المسبقة لوجود مجتمع سياسي، كما يوفر العالم المشترك للمؤسسات والمساحات التي تخلق المهنة الساحة التي يمكن أن يجتمع فيها المواطنون كأعضاء في هذا العالم المشترك للانخراط في النشاط السياسي.
في نقد أرندت للحداثة فإنّ العالم الذي خلقه الإنسان فابر مهدد بالانقراض من خلال صعود المجتمع، ولا يمكن لنشاط العمل واستهلاك ثماره اللذان سيطران على المجال العام أن يوفرا عالما مشتركا يمكن للبشر فيه السعي لتحقيق أهدافهم العليا.
فالعمل وآثاره هو بطبيعته غير دائم وقابل للتلف ومستنفد عند استهلاكه، وبالتالي فهو لا يمتلك صفات شبه الدوام الضرورية لبيئة مشتركة وتراث مشترك يصمد بين الناس وعبر الزمن، وفي الحداثة الصناعية يتم التضحية بجميع القيم التي تميز عالم التصنيع من مثل الدوام والاستقرار والمتانة لصالح قيم الحياة والإنتاجية والوفرة، ويهدد صعود العمال الحيوانيين انقراض الإنسان، ومعه يأتي زوال تلك الظروف الدنيوية التي تجعل الحياة الجماعية والعامة للمجتمع ممكنة، وهو ما تشير إليه أرندت باسم الاغتراب العالمي.
النشاط والإنسانية:
نشاط العمل هو الذي يلبي الاحتياجات الضرورية للحفاظ على الوجود المادي للإنسانيات، ولكن بحكم جودته الضرورية يحتل أدنى درجة في التسلسل الهرمي للأنشطة البشرية الثلاثة.
يُملى النشاط ويخضع لغايات وأهداف خارج نفسه، بينما المهنة هي في الأساس وسيلة لتحقيق الشيء الذي سيتم اختلاقه (سواء كان عملًا فنيًا أو بناء أو هيكلًا للعلاقات القانونية)، وهكذا يقف في علاقة هادفة فقط لتحقيق هذه الغاية، ومرة أخرى فإنّ أفلاطون هو المتهم باستغلال النشاط كأداة، وخلطه بالتلفيق والتبعية لغائية خارجية على النحو المنصوص عليه في نظامه الميتافيزيقي.
بالنسبة لأرنت لا يمكن أن يكون نشاط المهنة حرًا تمامًا بقدر ما هو ليس غاية في حد ذاته، ولكنه يتحدد بأسباب سابقة وغايات واضحة، وإنّ نوعية الحرية في عالم المظاهر والتي تعتبر بالنسبة إلى أرنت شرطًا لا غنى عنه للسياسة موجودة في مكان آخر في الحياة الواقعية، أي مع نشاط العمل المناسب.
السمة الأساسية المُحددة للنشاط هي حريته التي لا يمكن إنقاصها، ومكانتها كغاية في حد ذاتها وبالتالي خاضعة لأي شيء خارجها، فتجادل أرنت بأنّه من الخطأ اعتبار الحرية في الأساس ظاهرة داخلية أو تأملية أو خاصة لأنّها في الواقع نشطة ودنيوية وعامة.
حيث أنّ إحساسنا بالحرية الداخلية مشتق عندما نختبر أولاً حالة من الحرية كواقع دنيوي ملموس، وندرك كذلك الحرية أو نقيضها في اتصالنا بالآخرين وليس في الاتصال مع أنفسنا، وعند تعريف النشاط على أنّه الحرية والحرية كنشاط، يمكننا أن نرى التأثير الحاسم لفلسفة أوغسطين السياسية على فكر أرنت.
باختصار تمثل الإنسانية وتجسد كلية البداية، ويترتب على معادلة الحرية والنشاط والبداية هذه أنّ الحرية هي ملحق للنشاط والتمثيل، وتمنح هذه القدرة على البدء الإجراءات طابع التفرد والتميّز، حيث من طبيعة البداية أن يبدأ شيء جديد لا يمكن توقعه مما حدث من قبل، لذلك من الجوهري للقدرة البشرية على النشاط إدخال الجدة الحقيقية غير المتوقعة والتي لا يمكن التنبؤ بها في العالم.
إنّ تعريف الفعل البشري من حيث الحرية والجدة يضعه خارج نطاق الضرورة أو القدرة على التنبؤ، وهنا يكمن أساس نزاع أرنت مع هيجل وماركس لأنّ تعريف السياسة أو كشف التاريخ من حيث أي غائية أو عملية جوهرية أو موضوعية هو إنكار ما هو مركزي للفعل الإنساني الأصيل، أي قدرته على بدء كل شيء جديد غير متوقع وغير مشروط بقوانين السبب والنتيجة.
لقد قيل أنّ أرندت هي وجودية سياسية تقع في سعيها لأكبر قدر ممكن من الاستقلالية للفعل في خطر جمالية النشاط والدعوة للقرار، ومع ذلك فإن الوجودية السياسية تركز بشكل كبير على الإرادة الفردية وعلى القرار باعتباره فعل خيار وجودي لا تقيده المبادئ أو المعايير، وبالنسبة لأرنت النشاط هو فئة عامة، وممارسة دنيوية نختبرها في اتصالنا بالآخرين، وكذلك هي ممارسة تفترض مسبقًا ويمكن تحقيقها فقط في نظام حكم بشري.