يُعتقد عادةً أنّ فلسفة أمريكا اللاتينية قد نشأت في حوالي عام 1550، عندما أسس الغزاة الإسبان المدارس الأولى في أمريكا اللاتينية وبدأوا في تدريس ونشر الرسائل الفلسفية.
الاستقلال السياسي:
في أوائل القرن 19 اجتاحت حركات الاستقلال الوطني أمريكا اللاتينية، ومع ذلك فقد صنف بعض العلماء هذه الحروب من أجل الاستقلال على أنّها حروب أهلية، لأنّ غالبية المقاتلين من كلا الجانبين كانوا من أمريكا اللاتينية، فكريولوس (أي الأوروبي المولود في أمريكا اللاتينية) على الرغم من كونه أقلية عددية حوالي 15٪ من سكان أمريكا اللاتينية في أوائل القرن 19 فقد قاد الدفعة من أجل الاستقلال السياسي واستفاد بشكل واضح منه أكثر.
في المقابل كان معظم المقاتلين من الهجين (حوالي 25٪ من السكان) والهنود (حوالي 45٪ من السكان) الذين نادراً ما تحسنت أوضاعهم في المجتمع بعد الاستقلال الوطني بل تفاقمت في بعض الأحيان.
يختلف العلماء حول ما إذا كان ينبغي فهم التغييرات في فكر أمريكا اللاتينية كأسباب أو كآثار لحركات الاستقلال السياسي هذه، وعلى أي حال يعتبر بشكل عام سيمون بوليفار أبرز زعيم لهم، ولم يكن المحرر رجلاً عسكريًا ومؤسسًا سياسيًا لأمم جديدة فحسب، بل كان أيضًا مثقفًا طور فهمًا واضحًا وبصيرة للتحديات التي تنتظر أمريكا اللاتينية ليس فقط في وقته الخاص ولكن في المستقبل أيضًا.
اكتسب بوليفار منظوره الفلسفي والتاريخي والجغرافي من تعلم الكتب ومن الرحلات المكثفة في معظم أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، وكثيرًا ما استشهد بفيلسوف التنوير الفرنسي مونتسكيو في كتاباته السياسية، واعتقد بوليفار أنّ القوانين والمؤسسات الجيدة ليست من الأشياء التي يجب نسخها ببساطة، وبدلاً من ذلك يجب تكييفها بعناية مع حقائق تاريخية وجغرافية وثقافية معينة.
في ضوء ذلك أدرك بوليفار أنّ التكاليف المباشرة لاستقلال أمريكا اللاتينية تشمل الفوضى والافتقار العام للفضيلة الشخصية والسياسية، وهكذا سعى إلى خلق أشكال قوية ولكن خفية من السلطة المركزية القادرة على موازنة الحريات السياسية الجديدة، وفي الوقت نفسه سعى إلى إنشاء نظام تعليمي قادر على تطوير وعي وطني مستقل من وعي استعماري غير متجانس ومعتمد لم يُسمح له أبدًا بممارسة فن الحكم.
دعوات بوليفار المتحمسة للحرية والمساواة لجميع الأمريكيين اللاتينيين بما في ذلك تحرير العبيد، كانت مقترنة باستمرار بأسباب تبرر تركيز السلطة في مجموعة صغيرة متعلمة جيدًا من نخبة الكريولو في الغالب، وكانت النتيجة أنّ الهياكل الاجتماعية والاقتصادية الاستعمارية ظلت على حالها حتى بعد الاستقلال تاركة فجوة بين مُثُل الحرية والواقع العملي الذي يعيشه معظم الناس.
التحرر العقلي والثقافي:
بحلول منتصف القرن التاسع عشر لم تعد معظم دول أمريكا اللاتينية مستعمرات، على الرغم من أنّ القليل منها لم يحصل على الاستقلال إلّا في وقت لاحق، ومع ذلك كان هناك شعور واسع النطاق حتى بين النخب السياسية والفكرية بأنّ الاستقلال التام لم يتحقق.
صاغ العديد من المفكرين المشكلة من حيث التمييز بين الاستقلال السياسي الذي تم تحقيقه بالفعل والتحرر العقلي أو الثقافي الذي ظل كمهمة لجيل جديد، ومن خلال تطوير تشخيصهم الخاص للعقلية الاستعمارية الباقية سعى هذا الجيل إلى ولادة ثقافة وأدب وفلسفة أمريكية جديدة، ومن أهمها:
1- أندريس بيلو في فنزويلا.
2- فرانسيسكو بيلباو.
3- خوسيه فيكتورينو لاستاريا في تشيلي.
4- خوان باوتيستا ألبيردي.
5- دومينغو فاوستينو سارمينتو في الأرجنتين.
6- غابينو باريدا في المكسيك.
7- خوان مونتالفو في الإكوادور.
8- مانويل غونزاليس برادا في بيرو.
9- لويس بيريرا باريتو من البرازيل.
من بين هؤلاء المفكرين كان خوان باوتيستا البردي أول من تناول صراحة مسألة شخصية ومستقبل فلسفة أمريكا اللاتينية، والتي كان يعتقد أنّها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشخصية ومستقبل شعب أمريكا اللاتينية، ويجدر إعادة التأكيد على حقيقة أنّ مصطلح (أمريكا اللاتينية) لم يكن موجودًا بعد، وأنّ ألبردي تحدث عن مستقبل (الفلسفة الأمريكية) باعتباره انعكاسًا للشعب الأمريكي دون أي معنى لتشمل فلسفة أو شعب الولايات المتحدة.
بالنسبة لألبردي يجب استخدام فلسفة أمريكا اللاتينية كأداة فكرية لتطوير فهم أكثر المشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية حيوية التي تواجه شعوب أمريكا اللاتينية، ولا يستحق أي شيء أنّ إشارات ألبردي إلى (شعب) أمريكا اللاتينية كانت تستهدف في المقام الأول زملائه الكريول (الأوربيون من أصل أمريكا الإسبانية)، واستبعد ضمنيًا الأغلبية غير البيضاء من السكان، وكانت أسس ونقاط مغادرة ألبيردي للتنظيم السياسي لجمهورية الأرجنتين بمثابة أحد الأسس الرئيسية لدستور الأرجنتين لعام 1853 والذي لا يزال ساريًا مع التعديلات حتى يومنا هذا.
الفلسفة الوضعية:
تقريبا جميع المفكرين من الجيل الذي سعى إلى التحرر الفكري والثقافي من الماضي الاستعماري جاءوا مع فلسفة الوضعية، التي هيمنت على الكثير من المشهد الفكري لأمريكا اللاتينية طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالمعنى الدقيق للكلمة نشأت الوضعية في أوروبا مع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت، ولكنها لقيت ترحيباً حاراً من قبل العديد من المثقفين في أمريكا اللاتينية الذين رأوا شعار كونت (النظام والتقدم) كنسخة أوروبية لما كانوا يكافحون من أجل أنفسهم.
وأثناء تكييف الوضعية مع الظروف الإقليمية الخاصة بهم قاموا بعرضها بتفاؤل كفلسفة تقوم على أسلوب تجريبي وعلمي، يمكن أن يحدّث كل من الاقتصاد والنظام التعليمي من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وربما يتجلى تأثير الوضعية على أمريكا اللاتينية بشكل أكثر وضوحًا في علم البرازيل الحالي المعتمد في عام 1889، والذي يتميز بالكلمات (Ordem e Progresso) أي النظام والتقدم.
ومع ذلك فإنّ التبني الحرفي لشعار كونت يخفي حقيقة أنّ معنى الوضعية في أمريكا اللاتينية خضع لتغير كبير تحت تأثير الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر وآخرين سعوا لإعادة صياغة الوضعية في ضوء نظرية التطور الدارويني.
وهذا التنوع اللاحق للوضعية التطورية كان يُطلق عليه أيضًا في كثير من الأحيان المادية، والتي تتميز برفضها للميتافيزيقيا الثنائية والمثالية وفلسفتها الآلية للتاريخ، وتعزيزها للمنافسة الصناعية الشديدة باعتبارها الوسيلة الأساسية للتقدم المادي، وتفسيرها المتكرر لمختلف أشكال المجتمع والمشاكل السياسية من الناحية البيولوجية للخصائص العرقية، في حين أنّ الفهم الدقيق للوضعية يختلف من مفكر إلى مفكر ونطاق تأثير الوضعية يختلف من بلد إلى آخر، إلّا أنّ هناك القليل من التساؤل عن أهميتها الإجمالية.
ويمكن استخدام تاريخ الوضعية في المكسيك لتوضيح المعنى المتغير للوضعية في سياق وطني معين، وأسس غابينو باريدا المدرسة الإعدادية الوطنية في مكسيكو سيتي في عام 1868 وجعل شكلًا معدلًا من الوضعية لدى كونت أساسًا لمنهجها.
لقد فهم باريدا الفوضى الاجتماعية في المكسيك على أنّها انعكاس مباشر للاضطراب الفكري، الذي سعى إلى إعادة تنظيمه بالكامل تحت سلطة الرئيس بينيتو خواريز، ومثل كونت أراد باريدا أن يضع كل التعليم في خدمة التقدم الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي.
وعلى عكس كونت فسر باريدا الليبرالية السياسية على أنّها تعبير عن الروح الإيجابية، بتعديل شعار كونت الشهير ليقرأ: “الحرية كوسيلة، والنظام كقاعدة، والتقدم كالنهاية “، وكانت المواقف الفلسفية التي اتخذها الجيل الثاني من الوضعيين المكسيكيين مختلفة تمامًا، على الرغم من أنّهم أشادوا جميعًا بباريدا كمعلمهم.
في نهاية المطاف انضم العديد منهم إلى (científicos) وهي دائرة من المستشارين التكنوقراط للديكتاتور بورفيريو دياز، وأشهرهم جوستو سييرا الذي طور فلسفته عن التاريخ المكسيكي باستخدام نظرية التطور لسبنسر في محاولة لتسريع تطور المكسيك من خلال نوع من الهندسة الاجتماعية، وعلى الرغم من أنّ سييرا حكمت في البداية على أنّ ديكتاتورية بورفيريو دياز ضرورية من أجل تأمين النظام الضروري لتحقيق التقدم، إلّا أنّ سييرا في السنوات الأخيرة من حياته ألقت بظلال من الشك على كل من الوضعية والديكتاتورية التي استخدمت لدعمها.
كان الفيلسوف الكوبي خوسيه مارتي من أوائل منتقدي الوضعية في أمريكا اللاتينية، وارتبط نقده برؤية مختلفة لما أسماه أمريكا لدينا (Nuestra América)، واستعاد كلمة “(America) من الطريقة التي تستخدم بها للإشارة حصريًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
في حين أنّ الوضعيين أو الماديين يميلون إلى تفسير التخلف التطوري لأمريكا اللاتينية من حيث التخلف البيولوجي للأجناس التي تشكل غالبية سكانها، أشار مارتي إلى التاريخ الدولي المستمر للسياسات السياسية والاقتصادية التي تضر بشكل منهجي بهؤلاء الأشخاص أنفسهم، وكما فعل خوان باوتيستا ألبيردي جيلًا سابقًا دعا مارتي المثقفين في أمريكا اللاتينية إلى تطوير فهمهم الخاص لأكثر المشاكل الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية حيوية التي يواجهها شعب أمريكا اللاتينية.
على عكس ألبردي اتخذ مارتي وجهة نظر أكثر إيجابية وشمولية عن هوية أمريكا اللاتينية من خلال إعطاء الإنديوس والهجن والنيجروس والمولاتوس مكانًا جنبًا إلى جنب مع الكريول في مهمة بناء أمريكا اللاتينية الحرة حقًا، وفقًا لمارتي كان الفشل المستمر للولايات المتحدة في منح المساواة للأمريكيين الأصليين والعبيد السابقين في بناء أمريكا بنفس خطورة تقليد النموذج السياسي الأوروبي.
لسوء الحظ مات مارتي شابًا في الحرب الكوبية ليحصل على الاستقلال السياسي عن إسبانيا، ولكن بصفته مثاليًا كان يعتقد أنّ الأفكار القوية مثل الحرية يجب أن تلعب دورًا متساويًا في تحرير أمريكا اللاتينية من الدوافع الإمبريالية لكل من أوروبا والولايات المتحدة.