نظرية الفيلسوف أناكساجوراس عن الطبيعة مبتكرة ومعقدة تمامًا، ولكن للأسف لا تزودنا شظاياها بالعديد من التفاصيل حول كيفية عمل الأشياء على المستوى الجزئي، ومع ذلك فهو يقدم لنا شرحًا على مستوى الماكرو لأصول العالم كما نختبره، ويوجه انتباهنا في النهاية إلى نشأة الكون.
هيكل الأشياء:
تتجسد نظرية أناكساجوراس المبتكرة عن الطبيعة الفيزيائية في عبارة: “جزء من كل شيء في كل شيء”، وتم العثور على تعبيرها الأساسي في أحد الأجزاء بحيث يذكر كلمة (الأشياء)، وتجدر الإشارة إلى أنّه من الصعب تحديد ما يعنيه أناكساجوراس بالضبط بكلمة (الأشياء)، ومن المغري النظر إلى هذا كنظرية للمادة لكن هذا سيكون مضللًا لأنّه يميل إلى تطبيق الفئات والتفسيرات الأرسطية اللاحقة على أناكساجوراس.
في بعض الأحيان تم استخدام مصطلح (البذور) ولكن يبدو أنّ العديد من العلماء اليوم يفضلون المصطلح المحايد (المواد) لتصوير هذه الفكرة، على أي حال من الأفضل فهم هذه النظرية المعقدة إلى حد ما على أنّها محاولة أناكساجوراس للتوفيق بين تصوراته للعالم مع حجة مؤثرة (قدمها بارمنيدس في وقت سابق) حول كيفية تصور الواقع.
تحدي بارمينيدس:
وفقًا لبارمينيدس كل ما هو (وجود) وما هو غير موجود فهو ليس (عدم وجود)، ونتيجة لذلك كل ما يشكل طبيعة الواقع يجب أن يكون دائمًا (كان) لأنّ لا شيء يمكن أن ينشأ من العدم، وعلاوة على ذلك يجب أن يكون الواقع دائمًا (يكون) لأنّ الوجود (ما هو) لا يمكن أن يصبح غير موجود (ما هو ليس كذلك)، وقادت هذه الحجة بارمينيدس إلى مفهوم أحادي وثابت للواقع، وعلى هذا النحو فإنّ عالم تغيير التفاصيل خادع على الرغم من المظاهر التي تظهر عكس ذلك.
يبدو أنّ أناكساجوراس يقبل حجة بارمينيدس هذه كما تشير العبارة التالية: “الإغريق مخطئون في قبول القدوم والموت لأنّه لا يوجد شيء يأتي ولا يهلك”، ومع ذلك لم يستطع أناكساجوراس التوفيق بين أطروحة الوحدوية الراديكالية مع تجربته في عالم يبدو أنّه يعترف بالتعددية والتغيير.
في الواقع إذا كانت جميع أطروحات بارمينيدس صحيحة فلا توجد إمكانية للعلم لأنّ جميع البيانات التي تم جمعها تجريبياً مضللة، لذلك كان التحدي الذي واجه أناكساجوراس وفلاسفة ما بعد بارمينيدوس الآخرين هو تقديم وصف مناسب للطبيعة، مع الحفاظ على المطالبة بأنّ الأشياء التي تشكل الواقع لا يمكن أن تنشأ من لا شيء أو أن تنتقل إلى اللا وجود.
نظرية إمبيدوكليس:
كان إيمبيدوكليس معاصراً لأناكساجوراس، وفي حين أنّ السجلات التاريخية غير حاسمة فمن المحتمل أنّ الأخير كان يتفاعل جزئياً مع نظرية الأول في تطوير آرائه الخاصة، ورداً على بارمينيدس أكد إيمبيدوكليس أنّ العناصر الأربعة –الأرض والهواء والنار والماء – هي المكونات أو الجذور لكل المادة، وهذه الجذور الأربعة لا يمكن أن تظهر للوجود، ولا يمكن تدميرها أو الاعتراف بأي تغيير، ولذلك بصرف النظر عن حقيقة أنّ هناك أربعة فهي في الأساس متطابقة مع (واحد) بارمينيدس.
تمتزج الجذور معًا بنسب مختلفة لحساب كل الأشياء في العالم التي نفترض أنّها حقيقية مثل التفاح والخيول وما إلى ذلك، فعندما تذوب التفاحة فإنّها لا تنهار إلى غير كائن بل إنّ الخليط الذي كان مسؤولاً عن التفاحة الظاهرة لحواسنا قد أعيد ترتيبه ببساطة، والتفاح وغيرها من (الأشياء المميتة) كما أطلق عليها إيمبيدوكليس لم تتحقق في الواقع، ولم يتم تدميرها بالفعل، وهذه هي الطريقة التي يحب البشر أن يتحدثوا بها عن الكيانات التي يبدو أنّها موجودة ولكنها غير موجودة.
من الصعب تمييز علاقة أناكساجوراس بإيمبيدوكليس لكن من المحتمل أنّه لم يكن راضيًا عن رد إيمبيدوكليس على بارمينيدس وإلياتيكس، وفي تفسير أرسطو أكد أناكساجوراس أنّ تعددية إيمبيدوكليس قد خصت بشكل غير ملائم بعض المواد على أنّها أولية والبعض الآخر ثانوي، ووفقًا لأناكساجوراس تؤكد شهادة حواسنا أنّ الشعر أو اللحم موجودان بشكل مؤكد مثل الأرض أو الهواء أو الماء أو النار.
في الواقع جميع الأعداد اللانهائية من المواد حقيقية مثل الجذور، لذلك بموجب هذا التفسير تكمن المشكلة الرئيسية لأناكساجوراس في أنّه وفقًا لنظرية إمبودوكليس سيكون من الممكن تقسيم الشعر إلى أجزاء أصغر وأصغر حتى لا يعود الشعر ولكنه مركب من الجذور، وعلى هذا النحو فإنّ هذا لم يعد يفي بشرط أنّ مادة محددة لا يمكن أن تنتقل إلى عدم وجود.
وفقًا لتفسيرات أخرى يبدو أنّ بعض الأدلة النصية من أناكساجوراس تشير إلى أنّه تعامل مع بعض (الأشياء) (ala Empedocles) على أنّها أساسية ورئيسية أكثر من غيرها، وعلى أي حال فإنّ الفروق النظرية بين الفلاسفة غير واضحة إلى حد ما، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فمن الواضح أنّ أناكساجوراس يقترح نظرية للأشياء تختلف عن إمبيدوكليس أثناء مواجهة تحديات بارمينيدس.
عبرة التغذية:
في حين أنّ هناك بعض الجدل العلمي الحديث حول هذا الموضوع فإنّ زعم أناكساجوراس أنّ كل الأشياء لها جزء من كل شيء قد يكون نشأته في ظاهرة التغذية، حيث لاحظ بين الحيوانات أنّ الطعام الذي يستخدم للتغذية يتطور إلى لحم وشعر وما إلى ذلك، ولكي يكون هذا هو الحال يعتقد أناكساجوراس أنّ الأرز على سبيل المثال يجب أن يحتوي بداخله على مواد الشعر واللحم.
مرة أخرى هذا يتماشى مع الفكرة القائلة بأنّ المواد المحددة لا يمكن أن تنشأ من لا شيء، فكيف يمكن أن يكون الشعر ليس من شعر أو من لحم ليس من لحم؟، وعلاوة على ذلك لا تحتوي قطعة الأرز على الشعر واللحم فحسب بل إنّها تحتوي في الواقع على إجمالي كمية المواد اللانهائية (جزء من كل شيء)، ولكن كيف يكون هذا ممكنا؟
قابلية القسمة على المواد:
لفهم كيف يمكن أن يكون هناك جزء من كل شيء في كل شيء من الضروري تطوير ادعاء أناكساجوراس بأنّ الأشياء قابلة للقسمة بلا حدود، ومن الناحية العملية يمكن تفسير ذلك من خلال الاستمرار في مثال نواة الأرز، وبالنسبة إلى أناكساجوراس إذا بدأ المرء بتقسيمه إلى أجزاء أصغر وأصغر فلن يكون هناك نقطة لن يكون الأرز موجودًا عنده، ويمكن تقسيم كل قطعة صغيرة متناهية الصغر إلى أخرى وستظل كل قطعة تحتوي على الأرز وكذلك الشعر واللحم وجزء من كل شيء آخر.
قبل أناكساجوراس جادل زينو أحد تلاميذ بارمينيدس ضد فكرة أنّ المادة يمكن تقسيمها على الإطلاق ناهيك عن اللامحدودة، وعلى ما يبدو كان لدى زينو حوالي أربعين هجومًا عبثيًا على التعددية أربعة منها معروفة لنا، ولأغراضنا ليس من الضروري الخوض في هذه الحجج، ولكن الافتراض الرئيسي الذي نشأ عن زينو هو الزعم بأنّ تعدد الأشياء سيجعل مفهوم الحجم بلا معنى.
بالنسبة لزينو إذا كان التقسيم اللانهائي للأشياء ممكنًا فستظهر المفارقة التالية، حيث يمكن تصور أن تكون الانقسامات صغيرة جدًا بحيث لن يكون لها حجم على الإطلاق، وفي الوقت نفسه يجب اعتبار الأشياء كبيرة بشكل لا نهائي حتى يمكن تقسيمها بلا حدود، في حين أنّ الأدلة العلمية ليست قاطعة، ويبدو من الممكن تمامًا أنّ أناكساجوراس كان يرد على زينو عندما طوّر مفهومه عن القابلية اللانهائية للقسمة.
كما يشير الجزء التالي فإنه لم يعتبر أناكساجوراس أنّ النتيجة التي قدمها زينو تمثل مشكلة، حيث بالنسبة للصغير لا يوجد أصغر ولكن دائمًا أصغر (لأنّ ما لا يمكن أن يكون)، ولكن أيضًا بالنسبة للكبير هناك دائمًا أكبر وهو مساوٍ من حيث الحجم للصغير، ولكن فيما يتعلق بنفسها كل منها كبير وصغير، ووفقًا لبعض المفسرين فإنّ اللافت في هذه القطعة وأخرى مشابهة لها، أنّها تشير إلى المدى الذي أدرك فيه أناكساجوراس مفهوم اللانهاية.
كما يشير ويليام كيث تشامبرز جوثري إلى أنّ رد أناكساجوراس يُظهر فهماً لمعنى اللانهاية الذي لم يصل إليه أي يوناني قبله، فالأشياء لا حصر لها من حيث الكمية وفي نفس الوقت صغيرة بشكل لا نهائي، لكنها يمكن أن تستمر في أن تصبح أصغر إلى ما لا نهاية دون أن تصبح بذلك مجرد نقاط بدون حجم، وتعتبر التفسيرات الأخرى إلى حد ما أقل إحسانًا تجاه فهم أناكساجوراس لما لا نهاية، وتشير إلى أنّه ربما لم يكن قد وضع تصورًا لمفهوم اللانهاية الرياضية عند الحديث عن القابلية للقسمة.
على أي حال بقدر ما قد يبدو الأمر غريبًا للعيون الحديثة فقد أنجزت نظرية أناكساجوراس الفريدة والرائعة ما خططت للقيام به، ولقد استوفى مطلب بارمينيديان بأنّه لا يمكن لأي شيء أن يدخل أو يخرج من الوجود، كما أنّه كان مسؤولاً عن التعددية والتغيير الذي يشكل عالم خبرتنا، ومع ذلك يبقى سؤال صعب بالنسبة لنظرية أناكساجوراس.
لماذا شيء ما هو؟
إذا كان كل شيء وفقًا لأناكساجوراس يحتوي على جزء من كل شيء، فما الذي يجعل شيئًا ما (الأرز على سبيل المثال) ما هو؟ فلا يقدم أناكساجوراس إجابة واضحة على هذا السؤال، ولكن هناك إجابة ألمح إليها في ادعائه أنّ: “كل شيء هو، وكان بوضوح أكثر الأشياء التي يحتوي عليها”، ومن المفترض يمكن أن يُفهم هذا على أنّه يعني أنّ كل مكون للمادة يحتوي أيضًا على جزء من المادة السائد فيها.
لقد كافح المعلقون من أرسطو فصاعدًا لفهم هذه الفكرة، ولكن ربما يكون تفسير جوثري هو الأكثر فائدة: “كل شيء يحتوي على جزء من كل شيء آخر، وقطعة كبيرة من شيء تحتوي على أجزاء كثيرة مثل جزء صغير منه على الرغم من اختلافها في الحجم، ولكن كل مادة لا تحتوي على كل عدد لانهائي من المواد بنسب متساوية”، وعلى هذا النحو تحتوي مادة مثل الأرز مع احتوائها على كل شيء، على نسبة أعلى من الأبيض والصلابة وما إلى ذلك من مادة مثل الخشب.
ببساطة يحتوي الأرز على المزيد من الأشياء التي تجعله أرزًا أكثر من الخشب أو أي مادة أخرى، ومن المفترض أنّ الأرز يحتوي أيضًا على نسب أعلى من اللحم والشعر مقارنة بالخشب، وهذا من شأنه أن يفسر لماذا من منظور أناكساجوراس يمكن للحيوان أن يتغذى بالأرز وليس بالخشب.