فلسفة أناكساجوراس في مبدأي الصيرورة وكل شي

اقرأ في هذا المقال


اقترح الفيلسوف أناكساجوراس نظرية كل شيء مثل علماء ما قبل السقراط الآخرين، كما تناول موضوعات يمكن وضعها الآن خارج مجال البحث الفلسفي، أي لم يستكشف الميتافيزيقا وطبيعة الفهم البشري فحسب بل قدم أيضًا تفسيرات في الفيزياء والأرصاد الجوية وعلم الفلك وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأحياء، ويبدو أنّ هدفه كان أن يشرح بأكبر قدر ممكن العالم الذي يعيش فيه البشر ومعرفة المرء بهذا العالم، وبالتالي فهو يسعى لاستكشاف الكون من الأعلى إلى الأسفل.

المبدأ الميتافيزيقي لا صيرورة أو عابرة:

أحد المبادئ الأساسية للنظرية الإيلية (نسبة إلى مدينة إيليا في اليونان) هو أنّ ما هو غير موجود، حيث جادل بارمنيدس باستخدام هذا الادعاء بأنّ الظهور والوفاة مستبعدان، لأنّ الظهور الحقيقي هو التغيير من ما هو ليس إلى ما هو، بينما الدمار هو تغيير من ما هو موجود إلى ما هو ليس كذلك، وهكذا كما يقول بارمينيدس: “ما هو بدون بداية أو توقف، لأنّ المجيء والوفاة قد تلاشى بعيدًا، والثقة الحقيقية طردتهم”، ويقبل أناكساجوراس هذا المبدأ موضحًا التوليد الواضح والتدمير عن طريق استبدالها بخليط وفصل (أو تفكك) المكونات.

إنّ ما يبدو لنا من خلال الإدراك توليد كيانات جديدة أو تدمير كيانات قديمة ليس كذلك على الإطلاق، بل بالأحرى الأشياء التي يبدو لنا أنّها ولدت وتنمو وتموت، وهي مجرد ترتيبات وإعادة ترتيب لمكونات أكثر ميتافيزيقية أساسية، وتتمثل آلية الظهور الظاهر في الخلط والانفصال عن الخليط الناتج عن حركة دوامة المكونات.

ومن خلال هذه الآلية يمكن للأشياء الحقيقية والمكونات الاحتفاظ بشخصيتها طوال الوقت، وعندما ينفصل الترتيب (أو يختفي)، تنفصل المكونات عن بعضها البعض (من خلال الفصل)، ويمكن إعادة خلطها لتشكيل (أو تصبح) ترتيبات مختلفة أي كائنات محسوسة أخرى.

طريقة واحدة للتفكير في نقطة أناكساجوراس بأنّ الحيوانات والنباتات والبشر والأجرام السماوية وما إلى ذلك هي بنيات طبيعية، وإنّها بنيات لأنّها تعتمد في وجودها وشخصيتها على المكونات التي تم إنشاؤها منها (والنمط أو الهيكل الذي يكتسبونه في العملية)، ومع ذلك فهي طبيعية لأنّ بنائها يحدث كواحدة من عمليات الطبيعة، وعلى عكس المصنوعات البشرية من صنع الإنسان (والتي هي بالمثل تراكيب من المكونات)، فهي ليست مصممة غائيًا على تحقيق غرض ما.

هذا يعطي أناكساجوراس ميتافيزيقيا من مستويين وهما:

1- أشياء مثل الأرض والماء والنار والساخنة والمرة والظلام والعظام واللحم والحجر أو الخشب، وهي أشياء أساسية ميتافيزيقية وحقيقية حقًا (بالمعنى الإيلي المطلوب) أي إنّها أشياء موجودة.

2- الأشياء التي تشكلها هذه المكونات ليست حقيقية حقًا، وإنّها مخاليط مؤقتة بدون حالة ميتافيزيقية مستقلة أي إنّها ليست أشياء موجودة.

هذا الرأي القائل بأنّ المكونات أكثر واقعية من الأشياء التي تشكلها، وهو أمر شائع في الفلسفة ما قبل السقراطية، خاصة في نظريات هؤلاء المفكرين الذين تأثروا بحجج بارمينيدس ضد إمكانية ما هو غير موجود وبالتالي ضد الظهور الحقيقي والوفاة، ويمكن العثور عليها في إمبيدوكليس وفي علماء ما قبل أفلاطون وكذلك ربما في نظرية النماذج في الفترة الوسطى لأفلاطون.

المبدأ الميتافيزيقي كل شيء في كل شيء:

وهنا مبدأين لدىأناكساجوراس وهما:

1- “كانت كل الأشياء معًا”.

2- “في كل شيء هناك نصيب من كل شيء”.

إنّ التزام أناكساجوراس بمبادئ الإيلية يستبعد إمكانية الظهور الحقيقي أو الوفاة، كما أنّه يستبعد التغييرات والتحولات النوعية الحقيقية، حيث عندما يبرد سائل دافئ (على ما يبدو) يصبح السائل الساخن باردًا، وعندما يأكل الطفل الطعام (الحليب والخبز على سبيل المثال) يتحول الحليب والخبز (على ما يبدو) إلى لحم ودم وعظام، ومع ذلك يعترض أناكساجوراس على هذه الادعاءات لأنّها تستلزم أن يتوقف السخونة ويحل البرد في السائل، وأنّ الخبز والحليب يتلفان في حين أن اللحم والدم والعظام.

فقد كان حله هو الادعاء ليس فقط أنّ: “كل الأشياء كانت معًا” في الخليط الأصلي، ولكن كل شيء موجود في كل شيء في جميع الأوقات، فإذا كان هناك بالفعل دم وعظام في الحليب والخبز، فيمكن أن يُعزى نمو الطفل إلى تراكم هذه المكونات من الخبز والحليب، واستيعابها في مادة جسم الطفل بدلاً من التحول من الخبز والحليب إلى شيء آخر، وعلاوة على ذلك إذا كان هناك كلا من السخونة والباردة في السائل، فلا يوجد اختفاء في أي شيء للحرارة حيث يبرد السائل ولا يوجد توليد من البرد مما هو ليس باردًا (أو حتى مما هو غير بارد).

على الرغم من أنّ المترجمين القدامى (بما في ذلك سكولياست وسيمبليسيوس) والحديث (جوثري 1965 هو مثال جيد)، فقد رأوا الرغبة في تفسير التغذية والنمو على أنّهما الدافع الأساسي لتبني مبدأ كل شيء في كل شيء، فمن المرجح أنّ أناكساجوراس إنّ تبني المبدأ الميتافيزيقي العام لـ (لا أصبح) قاده إلى الادعاء بأنّ كل شيء موجود في كل شيء، والتغذية والنمو هما ببساطة حالات واضحة بشكل خاص للتغييرات التي تم استبعادها على أنّها حقيقية في الأساس إذا لم يكن هناك تحول.

يؤكد مبدأ كل شيء في كل شيء على الوجود الكلي للمكونات، ويوجد في كل شيء مزيج من جميع المكونات الموجودة، أي كل مكون موجود في كل مكان في جميع الأوقات، وهذا المبدأ هو مبدأ أساسي في نظرية أناكساجوراس ويؤدي إلى صعوبات في التفسير، وإذا كان كل شيء في كل شيء فيجب أن يكون هناك تداخل بين المكونات، لأنّه يجب أن يكون من الممكن وجود العديد من المكونات في نفس المكان.

في الواقع يتطلب المبدأ أن تكون جميع المكونات في كل مكان في جميع الأوقات، وسيسمح هذا لأي مكون بالخروج من خليط من خلال التراكم (أو بعد عدم خلطه ليصبح مغمورًا في واحد) في أي وقت، وبالتالي يسمح بظهور المستقبل (أو الوفاة) الأشياء أو الصفات.

افترض بعض العلماء أنّ أناكساجوراس فكّر في هذه المكونات على أنّها جزيئات صغيرة جدًا، ولكن يجب أن يكون الجسيم أصغر كمية من نوع ما من المكونات، وأن يشغل حيزًا ما بمفرده مع عدم وجود أي نوع آخر من المكونات فيه، ولا يستبعد مبدأ: “لا أصغر أو أكبر” هذا الأمر فقط، ولكن يبدو أنّ تفسير الجسيمات غير متوافق مع مبدأ: “كل شيء في كل شيء”، ومن الأهمية بمكان لنظرية أناكساجوراس أنّه لا يوجد في الواقع أي أجزاء أو أحجام نقية من أي نوع من المكونات.

بدلاً من ذلك قد يتصور المرء أنّ المكونات سائلة مثل المعاجين أو السوائل التي يمكن تلطيخها معًا، مع مناطق مختلفة من الخليط تتميز بكثافات نسبية مختلفة من المكونات، وكلها مع ذلك موجودة في كل مكان فيه، ويمكن خلط كل مكون حقيقي حقًا مع الآخر، وبالتالي سيتم احتواؤه في أي منطقة من الخليط، ومن حيث المبدأ يمكن استعادته بشكل مرئي عن طريق التراكم أو زيادة التركيز، وتسمح كثافات المكونات المختلفة بالاختلافات في الطابع الاستثنائي للخليط.

بالنسبة للمراقب ستظهر مناطق مختلفة أكثر سخونة أو برودة وأحلى أو أكثر مرارة وحمراء أكثر من الخضراء وهكذا وهذا صحيح، ونظرًا لتغير التركيز النسبي للمكونات في أي منطقة من الخليط (من خلال الخليط والفصل الناتج عن دوران الخليط الأصلي من المكونات)، فإنّ الطابع الاستثنائي لتلك المنطقة من الخليط سيتغير.


شارك المقالة: