في عام 1927 وصل الفيلسوف الاسكتلندي جون أندرسون إلى أستراليا لتولي كرسي الفلسفة في جامعة سيدني، وبحلول أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي كانت البنية الكلية لنظامه الواقعي قائمة، ويتضمن نظرية للعملية وميتافيزيقا جوهرية ونظرية تعارض الوضعية والفلسفة اللغوية وجميع أشكال المثالية، ومع ذلك خارج أستراليا لا يزال غير معروف إلى حد كبير على الرغم من تأثيره على عدد من القضايا الحالية في علم النفس والعلوم الاجتماعية بشكل عام.
الواقعية مقابل المثالية:
في حين أنّ محاضرات أندرسون عن الإسكندر كانت مساهمة مهمة في تطوير وتقديم الأنطولوجيا التي وصفها بأنّها التجريبية، فمن المهم ملاحظة أنّه في نفس الوقت الذي أُلقيت فيه هذه المحاضرات، وبدا أنّه كان يراجع تقييمه للعلاقة بين الواقعية والمثالية، وخلال الثلاثينيات من القرن الماضي تعامل أندرسون مع الواقعية والمثالية على أنّهما أضداد منطقية، أي لا يمكن تأكيد أحدهما دون إنكار الآخر وأدى تأكيد المثالية إلى بعض الصعوبات التي لا يمكن حلها.
من المدهش إذن أنّه في عام 1949 في مراسلات شخصية مع زميلته روث والكر (Ruth Walker)، حيث ذكر أنّ مشكلته الفكرية الرئيسية منذ الطفولة يبدو أنّها كانت مثالية، كما أنّ عدم قدرته على قبول التعددية باعتبارها سمة من سمات العالم وليس كشيء يجب التغلب عليه أو تجاوزه، والأهم من ذلك أنّه ذهب ليقول إنّ ووكر هو الوحيد الذي سيقدر مثاليته ويرى أنّها تأثير محفز وليس مجرد إهدار.
لسوء الحظ لم يواصل أندرسون شرح كيفية تجسيد هذه المثالية في فلسفته بالضبط، ولذا علينا ببساطة قبول وجهة نظره بأنّه يعتبر فلسفته أو على الأقل أجزاء مهمة منها مثالية، ومن الجدير بالذكر أيضًا أنّه في عام 1950 كتب إلى ووكر أنّه يبدو أنّه يتجه نحو هيغلي أكثر فأكثر، وفي عام 1952 تحدث عن إحيائه الهيغلية، ومرة أخرى لم يشرح في أي من الحالتين معنى هذه العبارات ولذلك يجب أن نقبل ادعاءه الظاهر بأنّه فكّر الآن في فلسفته من منظور هيغلي.
لم يعيد أندرسون النظر في آرائه حول الواقعية المنهجية حتى ألقى خطابًا بمناسبة تقاعده من جامعة سيدني في عام 1958، كما كان جزء كبير من هذه المقالة دفاعًا قياسيًا عن مفهومه للواقعية، حيث جادل بأنّ الواقعية تنفي الموقف المتميز الذي احتفظت به المثالية للعقل باعتباره مؤهلًا للواقع بالكامل، وأنّه لا توجد صعوبة خاصة في إظهار أنّه لا يوجد شيء عقلاني حول منطق العلاقات، وشدد على أنّ أهم تقدم قدمته الواقعية كان الانتقال من المفهوم الغامض لـ (الواقعي) إلى الحيز الزمني للأشياء كجزء من نظرية موضوعية عامة للواقع.
ومع ذلك في وصف واضح لآرائه السابقة حيث جادل أيضًا بأنّ الخطأ الشائع الذي يرتكبه الواقعيون هو الخلط بين هدف الهجوم الواقعي باعتباره مثالية، في حين أنّ الهدف الحقيقي للنقد هو العقلانية وعقيدتها الثنائية لـ (الجوهر).
كما أشاد بعقيدة هيجل للعقل الموضوعي كخطوة مهمة نحو الموقف الموضوعي العام، ولذلك على الرغم من انتقاده للمثالي يزعم أنّ العلاقات عقلية، فقد اعتقد أنّ المثاليين مثل هيجل قد قدموا مساهمات مهمة نحو الواقعية وصنف ادعائه السابق بأنّ المثالية هي الهدف الحقيقي للنقد الواقعي، وعندما تقترن هذه الاعترافات مع وصفه السابق لذاته بأنّه مثالي يروج لـ (إحياء هيجلية)، فمن المشكوك فيه أنّه يعتقد أنّ الواقعية كانت أفضل وصف شامل لمفهومه المنهجي للفلسفة.
تاريخ:
خلال الخمسينيات من القرن الماضي كان الاهتمام الأكاديمي الرئيسي لأندرسون هو مسألة التاريخ، وبينما أظهر اهتمامًا عامًا بمسائل التاريخ منذ الثلاثينيات وخلال الأربعينيات من القرن الماضي، حيث تعامل بشكل خاص مع كتابات بينيديتو كروتشي الفيلسوف الإيطالي المثالي عن التاريخ، فمن عام 1950 فصاعدًا كتب العديد من المقالات الأكاديمية التي تتناول على وجه التحديد موضوع التاريخ.
كانت السمة الأكثر جدارة بالملاحظة في هذه الكتابات هي اتساقها مع الأنطولوجيا التجريبية لأندرسون حيث:
1- أولاً أصرّ أندرسون على أنّ التاريخ يعمل وفقًا لقوانين سببية حتمية، فلا يوجد مكان لـ (الإرادة الحرة) في نظريته عن التاريخ.
2- ثانيًا كانت نظرية أندرسون للتاريخ موضوعية ومادية، أي أنّه لا يوجد مكان لأي كيانات خاصة أو غير مادية.
في هذا الصدد على الرغم من أنّ أندرسون كان في ذلك الوقت يرفض الشيوعية والمساواة باعتبارها مجرد أيديولوجيات سياسية، إلّا أنّه كان يدافع عن المادية التاريخية لماركس باعتبارها تفسيرًا نظريًا دقيقًا للقوى التاريخية، ومع ذلك كما لوحظ سابقًا لم يلتزم بالمادية الديالكتيكية، حيث إنّ الديالكتيك كقوة تاريخية لا يتوافق مع الحتمية الصارمة.
علاوة على ذلك كانت نظرية أندرسون للتاريخ نظرية تعددية من حيث أنّها أدركت التفاعل المعقد بين القوى النفسية والاجتماعية في التاريخ، كما أنّ إحدى السمات الأخيرة لنظرية أندرسون للتاريخ التي تتحد مع الأنطولوجيا التجريبية هي تأكيده على الحرية كقوة مهيمنة في عمل العمليات التاريخية، في حين أنّ هذا يبدو في البداية غير متسق مع إنكاره للإرادة الحرة فقد فهم أندرسون الحرية على أنّها قوة اجتماعية موضوعية وحازمة، ولا يمكن التعبير عن الحرية إلّا من خلال العملية المحددة سببيًا للحركات الاجتماعية.
التجريبية:
في العقد الأخير من حياته كتب أندرسون القليل عن مفهومه المنهجي للفلسفة، ومع ذلك فإنّ المقال الأخير الذي كتبه كان بعنوان التجريبية والمنطق (Empiricism and Logic)، وهذا الاستخدام لمصطلح التجريبية.
وحقيقة أنّ مجموعته من المقالات كانت بعنوان دراسات في الفلسفة التجريبية (Studies in Empirical Philosophy)، وهذه تعطينا إشارة واضحة إلى أنّ أندرسون كان يعتقد أنّ التجريبية كانت أفضل اسم لمفهومه الشامل للفلسفة، وقد جادل في هذا المقال بأنّ التجريبية هي عقيدة استمرارية كل الأشياء، أي أنّ أي شيء موجود مستمر مع كل الأشياء الأخرى من خلال التواجد في الزمكان ومشاركة الفئات المشتركة مثل الجوهر والسببية والهوية.
ونظرًا لأنّ هذه الفئات هي سمات عالمية لأي شيء موجود فلا يمكن أن تكون هي نفسها أشياء ولا يمكن فهمها إلّا على أنّها سمات رسمية للأشياء، علاوة على ذلك لا يمكن معرفة هذه الأشكال الفئوية الشائعة والتعبير عنها إلّا من حيث الوظائف الافتتاحية مثل الموضوع والمسند والجامع والصيغة المقترحة “(س) هي (ص)”.
من المهم أنّ أندرسون جادل أيضًا بأنّ المقياس المشترك للأحداث الأرضية لا يمكن أن يكون شيئًا بحد ذاته، لأنّ مثل هذا الإجراء المشترك يمكن أن يكون شيئًا رسميًا أي غير أرضي، وتتضح المثالية في فلسفة أندرسون التجريبية بوضوح في هذا الرأي أنّ الطبيعة المنطقية أو الشكلية للفئات والافتراضات لا يمكن فهمها من حيث الأشياء الخاضعة للتجربة التجريبية العادية.