فلسفة الأكويني والأرسطية

اقرأ في هذا المقال


على الرغم من أنّ الأفلاطونية الحديثة كانت التأثير الفلسفي الرئيسي على الفكر المسيحي في فترته المبكرة ولم تتوقف أبدًا عن كونها عنصرًا مهمًا داخلها، إلّا أنّ الأرسطية شكلت أيضًا التعاليم المسيحية، فقد اشتهر أرسطو في البداية بأعماله في المنطق، واكتسب تقديراً كاملاً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عندما أصبحت أعماله في الفيزياء والميتافيزيقا والأخلاق متاحة باللغة اللاتينية، ومترجمة إما من اليونانية أو من المصادر العربية.

وكان لفكر أرسطو تأثير عميق على أجيال من علماء العصور الوسطى وكان حاسمًا لأعظم الفلاسفة والمفكرين المسيحيين في العصور الوسطى ومنهم القديس توما الأكويني (1225-1274)، حيث كانت إحدى أفكار أرسطو التي أثرت بشكل خاص على توماس هي أنّ المعرفة ليست فطرية، ولكنها تُكتسب من تقارير الحواس ومن الاستدلال المنطقي من الحقائق الواضحة بذاتها.

ومع ذلك أضاف توماس على عكس أرسطو الافتراضات السماوية إلى الحقائق الواضحة في تشكيل أساسه للاستدلال، كما تبنى توماس مفهوم أرسطو للميتافيزيقا كعلم للوجود، ولقد استوحى أرسطو أيضًا مذهبه في التشبيه الذي وفقًا لتصريحاته عن الله بشكل تناظري وليس وحيدًا، وكذلك تمييزه بين الفعل والفاعلية والجوهر والوجود والجوهر والحوادث والعقل النشط والسلبي ونظرته إلى الروح على أنّها شكل الجسد.

تأثر فلسفة الأكويني بالفلسفة الأرسطية:

بالنظر إلى التمييز بين الفلسفة واللاهوت في فكر الفيلسوف توما الأكويني يمكن للمرء بعد ذلك التمييز بين المصادر والتأثيرات الفلسفية واللاهوتية في عمل الأكويني، ففي الادعاء الذي يقول أنّ توماس هو كفيلسوف بالتأكيد أرسطو، واهتمامه وفهمه الإدراكي للستاغيريت موجود منذ سنواته الأولى ولم ينتظر الفترة التي اقتربت من نهاية حياته عندما كتب تعليقاته النصية القريبة على أرسطو.

وعندما أشار توماس إلى أرسطو بالفيلسوف لم يكن مجرد تبنٍ لواجهة العصر في ذلك الوقت، ولقد تبنى تحليل أرسطو للأشياء المادية، ونظرته إلى المكان والزمان والحركة وإثباته على المحرك الرئيسي وعلم الكونيات الخاص به.

فلقد وضع حساب أرسطو الخاص به عن الإدراك الحسي والمعرفة الفكرية، والتي تستند فلسفته الأخلاقية إلى حد بعيد على ما تعلمه من أرسطو، وفي تعليقه على الميتافيزيقيا يقدم وصفًا مقنعًا ومتماسكًا لما يجري في تلك الصفحات الصعبة، وغالبًا ما يمكن الحصول على نظرة عميقة في الفكر الفلسفي لتوماس من خلال الانتباه الوثيق للطرق التي يعلق بها ويوضح تفسيراتها المقاطع الصعبة في أرسطو، والتي يمكن أن تكون غامضة للغاية.

لكن الاعتراف بالدور الأساسي لأرسطو في فلسفة توماس لا يعني إنكار التأثيرات الفلسفية الأخرى، حيث كان لفلسفة الفيلسوف القديس أوغسطينوس هو حضور مهم للغاية لدى فلسفة توماس، كما كان بوثيوس وديونيسيوس المزيف وبروكلوس قنوات تعلم من خلالها الأفلاطونية الجديدة، ولا يوجد شيء أكثر وضوحًا عن أرسطو حول توماس من افتراضه أنّ هناك شيئًا ما يمكن تعلمه من أي مؤلف وليس فقط الأخطاء التي يجب تجنبها، ولقد تبنى بالتأكيد العديد من الميزات من مصادر غير أرسطية.

وقد دفع هذا البعض إلى اقتراح أنّ ما يسمى بالفلسفة التوماوية (نسبة إلى المدرسة الفلسفة للقديس توماس الأكويني) هو خليط انتقائي وليس مجموعة من التخصصات المتماسكة، كما جادل آخرون الذين صدمهم بروز الأفكار الأفلاطونية مثل المشاركة في توماس، بأنّ فكره هو في الأساس أفلاطوني وليس أرسطيًا، ولا يزال آخرون يجادلون بأنّ هناك فلسفة التوماوية أصلية جذريًا، ولا يمكن وصفها بأي شيء تشترك فيه مع المفكرين الأوائل ولا سيما أرسطو.

إنّ الاعتراف بأنّ توماس هو في الأساس أرسطو لا يعادل الادعاء بأنّ أرسطو هو التأثير الوحيد عليه، وإنّ الادعاء بأنّ كل ما يأخذه توماس من مصادر أخرى يعتبر متوافقًا مع ما يشترك فيه بالفعل مع أرسطو، وبطبيعة الحال فإنّ لفت الانتباه إلى مصادر فلسفة توماس لا يعني أنّ كل شيء يحمله فلسفيًا يمكن تحليله مرة أخرى إلى سوابق تاريخية، أو أنّه لا يختلف أبدًا مع مصادره ولا سيما أرسطو.

ترتيب الاستفسار الفلسفي للأكويني:

يعتبر توماس الفلسفة مصطلحًا شاملاً يغطي مجموعة مرتبة من العلوم، ويتسم التفكير الفلسفي ببنيته الجدلية، والعلم يعتبر أساسًا اكتشاف خصائص أنواع الأشياء، ولكن التفكير أحيانًا يكون نظريًا وعمليًا في بعض الأحيان، حيث إنّ الهدف من الاستخدام العملي للعقل هو توجيه نشاط آخر غير التفكير، كالاختيار في حالة الفعل الأخلاقي وبعض المنتجات في حالة الفن، والجانب النظري يستخدم العقل الحقيقة كهدف، وإنّه لا يسعى إلى تغيير العالم بل إلى فهمه.

ومثل أرسطو يرى توماس أنّ هناك تعددية في كل من العلوم النظرية والعملية، فالأخلاق والاقتصاد والسياسة هي العلوم العملية، في حين أنّ الفيزياء والرياضيات والميتافيزيقا هي العلوم النظرية، وهذه إحدى الطرق لوضع التخصصات الفلسفية المختلفة.

ولكن هناك شيء آخر يتعلق بالترتيب المناسب الذي يجب دراستها به، فهذا الترتيب للتعلم هو كما يلي:

1- المنطق.

2- الرياضيات.

3- الفلسفة الطبيعية.

4- الفلسفة الأخلاقية.

5- الميتافيزيقيا.

حيث تنبع أولوية المنطق في هذا الترتيب من حقيقة أنّه يجب علينا معرفة ما هي المعرفة حتى ندرك أننا قد حققنا مطالبها في حالة معينة، وتأتي دراسة الرياضيات في وقت مبكر لأنّ القليل من الخبرة في العالم مطلوب لإتقانها، ولكن عندما ننتقل إلى معرفة العالم المادي، هناك اعتماد متزايد باستمرار على خبرة واسعة وعميقة للأشياء.

ولا تتطلب الفلسفة الأخلاقية الخبرة فحسب بل تتطلب التنشئة الجيدة وترتيب الأهواء، بينما الميتافيزيقيا أو الحكمة التأملية هي الهدف النهائي والمُحدِّد للبحث الفلسفي، وذلك إنّها المعرفة التي يمكننا تحقيقها عن الإله والتي تعد السبب الأول لكل شيء آخر.

ففي تصنيف المنطق قام توماس بالتعليق على عملين منطقيين لأرسطو، وذلك في التفسير (الذي لم يكمله) والتحليلات اللاحقة، بينما في الرياضيات لا يوجد سوى تلميحات سريعة في كتابات توماس، كما يصف توماس المنطق على أنّه التعامل مع المقاصد الثانية، أي بالعلاقات الرسمية التي ترتبط بالمفاهيم المعبرة عن طبيعة الأشياء الموجودة والتي تعد هي المقاصد الأولى.

تأتي المفاهيم في المرء نتيجة لانخراطه في العالم المعقول، ولذلك من المهم التأكيد على أنّ المنطق يتعلق بالعلاقات الرسمية بين المفاهيم، فلا يهتم بنوع العلاقات التنموية والسببية التي تمت دراستها في علم النفس، ولا يدافع توماس عن نوع من الحساب النفسي البدائي للمنطق كما قد يراه المرء في العديد من حسابات القرن التاسع عشر.

هذا يعني أنّ المنطق يركب على ظهر المعرفة المباشرة للعالم، وبالتالي يدمج وجهة النظر القائلة بأنّ ما هو أساسي في معرفتنا هو الأشياء التي نشكل مفاهيمها أولاً، فالكيانات الرياضية هي عمليات مثالية يتم إجراؤها عن طريق التجريد من معرفتنا بالأشياء المعقولة، حيث إنّ معرفة الأشياء الحسية أمر أساسي وبالتالي يسبق ترتيب تعلم العلوم الفلسفية.

هذه الأسبقية المعرفية للمعرفة لما ندركه بحواسنا هي أساس أسبقية المعقول في لغتنا، واللغة معبرة عن المعرفة وبالتالي فإنّ أول ما يمكن معرفته بسهولة هو ما تعبر عنه لغتنا أولاً، وهذه هي القاعدة حيث من المثير للاهتمام أن نرى تطبيقه في تطوير فلسفة الطبيعة.


شارك المقالة: