فلسفة الإرادة العامة لدى روسو

اقرأ في هذا المقال


كانت هناك شعارات ونداءات سياسية بمفاهيم راديكالية صُيغت في ثورات الفلاحين في فترة العصور الوسطى وفي القرن السابع عشر، كما هو الحال في المناقشات التي أعقبت ثورة الضباط المتطرفين في جيش كرومويل (1647) ولكن يعد الدين مصدر إلهام لهذه الحركات، فأعلن روسو في تلك الأثناء المساواةالعلمانية والعبادة الرومانسية للرجل العادي، حيث إنّ تصريحه الشهير “يولد الإنسان حراً وفي كل مكان مقيد بالسلاسل” يثير التساؤلات حول التسلسل الهرمي الاجتماعي التقليدي، بمعنى حتى ذلك الحين كان الفلاسفة السياسيون يفكرون من منظور النخب ولكن الآن وجدت جماهير الشعب بطلًا وأصبحوا سياسيًا واعيين.

ما هو مفهوم الإرادة العامة؟

الإرادة العامة في النظرية السياسية هي إرادة جماعية تهدف إلى الصالح العام أو المصلحة المشتركة، والإرادة العامة أساسية للفلسفة السياسية لجان جاك روسو ومفهوم مهم في الفكر الجمهوري الحديث، حيث ميز روسو الإرادة العامة عن الإرادة الخاصة والمتناقضة في كثير من الأحيان للأفراد والجماعات، ففي كتابه (Du Contrat social – العقد الاجتماعي) في عام 1762 جادل روسو بأنّ الحرية والسلطة ليسا متناقضين لأنّ القوانين الشرعية تقوم على الإرادة العامة للمواطنين، وفي طاعة القانون فإنّ المواطن الفرد يطيع نفسه فقط كعضو في المجتمع السياسي.

وهناك اتفاق واسع على أنّ روسو كان مهتمًا بالحفاظ على الحرية المدنية والاستقلال الذاتي وليس بإعطاء الحكم الحر للحكومة، وفي الواقع مفهوم الإرادة العامة يعني أيضًا تحريم الاستبداد، وبالنسبة لروسو الحكومة شرعية فقط بقدر خضوعها للسيادة الشعبية أو بعبارة أخرى تتبع الإرادة العامة للشعب، وتفقد الحكومة كل شرعيتها في اللحظة التي تضع فيها نفسها فوق القانون لتحقيق مصلحتها كهيئة سياسية منفصلة.

فكرة الإرادة العامة:

الإرادة العادية هي مجرد مكان يقرر فيه مواطنو دولة ما معًا في مجلس ممثل كلجنة سيادية، وهناك تفسير آخر هو أنّ الإرادة العامة هي تعبير متسامي عن المصالح المشتركة للمواطنين ويتجسد هذا بتجريد الاحتياجات الفعلية التي يريدها المواطنين.

حيث وجد أنّ كلا التفسيران للإرادة العامة ظهرت بشكل مدعوم في نصوص روسو والذي كان كل منهما مؤثراً بطريقة ما، أما في عمله العقد الإجتماعي وتحديداً في الفصل الثالث من الكتاب الثاني فقد ناقش روسو لمصطلح الديمقراطية، وغالبًا ما تقتبس المفاهيم المعرفية للديمقراطية المعاصرة من مناقشة روسو لهذه المفاهيم، تبدأ هذه الخطابات من نظرية هيئة المحلفين لكوندورسيه Condorcet، والتي تصور العملية الديمقراطية كوسيلة لاكتشاف والوصول إلى الحقيقة نحو المصلحة العامة، ثم يفسرون الإرادة العامة كوسيلة للسعي لإرضاء التفضيلات الشخصية وإضفاء الشرعية على سلطة الدولة.

فلسفة الفرق بين مفهومي الديمقراطية والتعالي لدى روسو:

ولتقريب بين مصطلحي الديمقراطي والمتعالي فلا بد من أخذ وجهة النظر روسو حول الدفاع عن أنه طبقًا للإجراءات الصحيحة وتحت غطاء الظروف المناسبة، سيتوجه المشرعين لقيادة المواطنين للالتقاء حول قوانين تتماشى مع مصالحهم المشتركة، ولا يمكن بتواجد الشرعية في الدولة في ظل غياب هذه الأسس والشروط.

في مثل هذا التفسير قد يتبع روسو وجهة نظر شبيهة بالأناركية ( هو مصطلح من أصول إيطالية يعني اللاسلطوية) الفلسفية اللاحقة، والتي تعتقد أنّه من حيث المبدأ من الممكن لدولة ما أن تمارس سلطة قانونية وشرعية على مواطنيها، ولكنها في الواقع دول حقيقية إنّها في الواقع تعد كل الدول التي قد نراها في العصر الحديث بحيث لن تستوفي شروط الشرعية.

مبدأ تطبيق الإرادة العامة:

ولتكون الإرادة العامة عامة فعلية وحقيقية جاء في فلسفة روسو السياسية أنّه لا بد من أن تأتي الإرادة العامة من الجميع ولا بد من تطبيقها على الجميع، وهذا الفكر له جوانب أساسية وشكلية لذلك جادل روسو بشكل رسمي بأنه لا بد أن يكون القانون قابل للتطبيق بشكل عام، فلا يجوز للقانون أن يعنى بأشخاص معينين بل يجب أن ينطبق ويعم على كل فرد داخل الدولة، ويرى روسو أيضًا أنّ هذا الوضع سيظل يدفع المواطنين إلى تفضيل القوانين التي تضمن المصالح المشتركة بطريقة عادلة ولا تخلق أعباءًا وتطفلات وذلك لأنّ المواطنين يسترشدون بمصالحهم الخاصة.

ومع ذلك لتحقيق ذلك في بلد به أنماط الحياة مختلفة وتتنوع فيها المهن التي يمارسها المواطنون، وهناك تنوع ثقافي غني أو تفاوت اقتصادي عالي بشكل غير متساو، بحيث يجب أن تكون ظروف المواطنين متشابهة جدًا مع بعضها البعض حيث بشكل عام يؤثر القانون على الجميع ولكن هذا لن يحقق خاصية أن يكون القانون عامًأ، ففي هذه الحالة ليس هذا هو الحال عادة لأنّ المواطنين يمكنهم التلاعب في وجهة نظر الإرادة العامة وذلك برسم مخيلة من أثر القوانين سواء كانت عامة أو عالمية بالنسبة له في قضيته كمواطن.

وبالنسبة لروسو فإنّ الإرادة العامة ليست مثالية مجردة، حيث إنّها الإرادة التي يحملها الناس بصفتهم مواطنين، وبالتالي فإنّ تصور روسو سياسي ويختلف عن التصور الأكثر عالمية للإرادة العامة الذي يتبناه ديدرو، والمشاركة في الإرادة العامة تعني بالنسبة لروسو التفكير والتصويت على أساس إحساس الفرد بالعدالة، ويصبح الأفراد مدركين لمصالحهم كمواطنين وفقًا لروسو، وبالتالي لمصلحة الجمهورية ككل ليس من خلال المناقشات الحماسية ولكن على العكس من ذلك، باتباع ضميرهم الشخصي في “صمت المشاعر”.

بهذا المعنى فإنّ الجمعية العامة لا تناقش بقدر ما تكشف عن الإرادة العامة للشعب، وقد جادل روسو بأنّ الإرادة العامة صحيحة في جوهرها لكنه انتقد أيضًا في بعض الأعمال في عام 1750 (بشكل رئيسي في كتابه Discours sur les sciences et les Arts – خطاب في العلوم والفنون) الارتقاء العقلاني للعقل فوق المشاعر، وقد أثار هذا العلماء النقاش حول الأبعاد العقلانية والعاطفية للإرادة العامة، فمن ناحية تعكس الإرادة العامة المصلحة العقلانية للفرد (كمواطن) وكذلك مصلحة الشعب ككل، ومن ناحية أخرى فإنّ الإرادة العامة ليس عقلانيًا بحتًا لأنّه ينبع من ارتباط وحتى حب للمجتمع السياسي.

ظهور الإرادة العامة كإجراء وفضيلة ومشرع:

هناك ثلاث درجات متعددة من الإرادة صورها روسو في كتابه العقد الإجتماعي والتي لها دور فيما يلي:

  1. أولاً: كل الأفراد لديهم وصايا خاصة تتماشى مع مصالحهم الأنانية كأشخاص طبيعيين.
  2. ثانيًا: طالما يتفق الجميع مع المجموعة بأكملها والتي يحملون جنسيتها فإنّه يأمل في أن تكون الإرادة العامة للمجموعة ملكًا له أو لها، متجاهلاً المصالح الأنانية وذلك سعيًا لمصالح عدة قوانين التي تسمح للجميع بالتعايش في ظل حرية متساوية قانونيًا.
  3. ثالثًا: هذا يمثل مشكلة كبيرة لأنّه يمكن لأي شخص الموافقة على إرادة الشركة لمجموعة السكان الفرعية بأكملها. لذلك فإنّ الإرادة العامة هي ملك المجموعة حيث أنّ الفرد يعرف أنّه عضو في المجموعة بقدر ما يعرف أنّ الإرادة العامة لما لها من مداولات وملكية للفرد.

الإرادة العامة كفضيلة لدى روسو:

عندما يكون المجتمع منظم بصورة جيدة بحيث لا تتعارض الإرادة الخاصة مع العامة، يمكن للأفراد قبول العدالة والمصالح الشخصية وذلك بامتثالهم للقانون لحماية حريتهم ولحمايتهم من العنف الخاص والسيطرة الشخصية والتي إلّا وستسيطر، ويعتقد روسو في الواقع أنّ العديد من المجتمعات لن يكون لديها هذه الشخصية المنظمة جيدًا، وإحدى طرق الفشل هي إذا لم يكن الفرد مستنيراً أو فاضلاً بشكل كافٍ، وبالتالي يرفض قبول القيود السلوكية المفروضة التي تتطلبها المصلحة الجماعية.

وهنا نرى نمط وسلوك آخر من الفشل السياسي حيث ينقسم المجتمع السياسي إلى فصائل (ربما على أساس التقسيم الطبقي بين الأغنياء والفقراء)، ويمكن للفصيل أن يفرض إرادته الجماعية على البلد بأكمله.

وهناك المزيد من الإرباك الذي يحدثه العقد الإجتماعي بين الروايتين لكيفية حدوث العام ومدى ارتباطه بالإرادة الخاصة للمواطنين، وأحيانًا يميل روسو إلى قصة إجرائية والتي بناءً عليها ينظر فيها الأفراد إلى مصالحهم الشخصية (مع الأخذ بعين الاعتبار القيود العامة والعالمية وفي ظل ظروف الخلفية الاجتماعية المواتية مثل المساواة التقريبية والتشابه الثقافي) وبالتالي ظهور الإرادة العامة لجمعيات المواطنين.

في هذا التوضيح لظهور الإرادة العامة الظاهر أنّه لا توجد حاجة ودافع خاص للمواطنين ليمتلكوا أي من الصفات والسمات الأخلاقية الخاصة مما يعني أنّ القيود المفروضة على اختياراتهم يجب أن تكون كافية، وبالرغم من ذلك يرى روسو بوضوح أيضًا أنّ مراعاة المصلحة الذاتية فقط لن تولّد وتصنع الإرادة العامة بصورة كافية، وقد يكون هذا مرتبطًا بشكل جزئي بقضايا امتثال المواطنين، لأنّ المواطنين ذوو الطابع الأناني والذين يمكنهم تحمل تكاليف الإرادة العامة قد لا يخضعون للامتثال، ولكن يبدو أيضًا أن روسو يعتقد أن فضائل المواطنين هي أولاً وقبل كل شيء شرط ضروري لتوليد الإرادة العامة مما يجعله يواجه مشكلة يحاول حلها من خلال شخصية المشرع.

كمؤمن بالمرونة البشرية يعتقد روسو أنّ القوانين الجيدة يمكن أن تخلق مواطنين صالحين، لكنه يعتقد أيضًا أنّ القوانين الجيدة لا يمكن تشريعها إلّا من قبل المواطنين الصالحين، ولجعله قانونيًا يجب أن يتوصل المجلس إلى توافق في الآراء حول هذا الأمر، مما يجلب معه بعض الصعوبات لأنّ المواطنين الذين يجتمعون لتشكيل دولة جديدة من غير المحتمل أن يتمتعوا بالصفات الأخلاقية التي تتطلبها القوانين الجيدةن سوف يمر هؤلاء المواطنون بمؤسسات غير عادلة.

الإرادة العامة كمشرع لدى روسو:

لذلك فإنّ للمشرعين وظيفة تحفيز الشعور بالهوية الجماعية بين المواطنين الجدد، وتمكينهم من فهم الجميع وتعبئتهم لدعم التشريعات التي ستحولهم في نهاية المطاف هم وأطفالهم إلى مواطنين صالحين، وفي هذه الرواية في البداية ينقص المواطنون الجدد قدرتهم على تفريق الأسباب الوجيهة لدعم القانون الجديد، ويجب على المشرعين إقناعهم باستخدام وسائل غير عقلانية للتشريع لمصلحتهم الخاصة.

يبدو أنّ روسو اراد إظهار لنا أنّ شخصية المشرع وواضع القانون بطريقة غامضة ومحيرة كلغز مثلما أظهر شخصية المدرس في كتابه إميل، لأن المشرع لديه الرغبة في التلاعب بالمتهم وإعطائه وهم بحرية الاختيار وذلك بدون محتواه، وهو أمر لا يثير الدهشة عندما يرى نقاد أعمال روسو في هذه الشخصيات من منظور شرير إلى حد ما، في كلا الحالتين يظهر لغز يرتبط بمصدر شخصية المعلم والمربي وطريقة اكتسابه للمعرفة والفضائل اللازمة لأداء واجباته مما يثير بدوره مشكلة الانحدار والتراجع.

فإذا كان المجتمع عادل والمشرع ينتمي إليه فمن يلعب دور المشرع في ذلك المجتمع وكيف يتشكل المشرع؟ كيف يمكن للمعلم الحصول على التعليم إذا لم يتم الحصول عليه من المعلم الذي قام المعلم الأصلي بتدريسه وفقًا لبرنامج روسو؟


شارك المقالة: