الفيلسوف بيرو من إليس (حوالي 360 إلى 270 قبل الميلاد) مؤسس الشكوك البيرونية هو شخصية غامضة لم يكتب شيئًا بنفسه، والقليل الذي نعرفه عنه يأتي في معظمه من أجزاء من قصائد تلميذه تيمون ومن سيرة ديوجينس لايرتيوس، والتي تستند إلى كتاب من تأليف أنتيغونوس من كارستوس أحد شركاء تيمون، ويبدو أنّه لم يعد هناك تلاميذ لبيرو بعد تيمون، ولكن بعد ذلك بوقت طويل في القرن الأول قبل الميلاد اقترح أنيسيديموس وجهة نظر متشككة ادعى أنّه بيروني.
الفيلسوف بيرو وتلميذه تيمون:
في وقت لاحق من القرن الثاني بعد الميلاد سجل سكستوس إمبيريكوس مجموعة من الحجج المتشككة التي تهدف إلى جميع وجهات النظر الفلسفية المعاصرة، وكما هو الحال مع انيسيديموس زعم سكستوس أنّ بيرو هو المؤسس أو على الأقل مصدر إلهام للشك الذي ذكره، ومحتوى هذه الآراء المتشككة وطبيعة تأثير بيرو والعلاقات بين المراحل التالية من البيرونية هي مواضيع مثيرة للجدل.
تميل الأدلة القصصية لبيرو إلى أنّ تكون مثيرة، ويشير ديوجين على سبيل المثال إلى أنّ بيرو لم يثق في حواسه لدرجة أنّه كان من الممكن أن يسقط من المنحدرات أو تدهسه عربات وعربات متوحشة من قبل الكلاب لو لم يتبعه أصدقاؤه، ويُزعم أنّه كان غير مبال بمعايير معينة للسلوك الاجتماعي حيث كان يأخذ الحيوانات إلى السوق ويغسل خنزيرًا وحتى ينظف المنزل بنفسه.
بالنسبة للجزء الأكبر نجد أنّ اللامبالاة مقدمة على أنّها خاصية إيجابية، على سبيل المثال بينما كان على متن سفينة وسط عاصفة رهيبة كان قادرًا على الحفاظ على حالة من الهدوء، وبالمثل يقدم تيمون بيرو على أنّه وصل إلى حالة من الهدوء الإلهي بعد أن أفلت من العبودية إلى مجرد رأي، وكما حظي بتقدير كبير من قبل مدينته الأصلية لدرجة أنّه تم تعيينه رئيس كهنة ومن أجله قاموا بإعفاء جميع الفلاسفة من الضرائب، ونجد أيضًا تقريرًا محيرًا عن رحلة إلى الهند حيث اختلط بيرو ببعض السفسطائيين والمجوس العراة ويفترض أنّه تعلم منهم.
بشكل عام الأدلة القصصية في ديوجين وفي أماكن أخرى غير موثوقة، أو على الأقل مشكوك فيها بدرجة كبيرة، ومثل هذه التقارير هي على الأرجح اختراعات ملونة لمؤلفين لاحقين نُسبت إلى بيرو لتوضيح أو رسم كاريكاتوري لجزء من وجهة نظره الفلسفية، ومع ذلك يتم تصويره باستمرار على أنّه هادئ بشكل ملحوظ بسبب افتقاره إلى آرائه لذلك قد نقبل هذه الروايات بحذر، وتأتي أهم شهادة على طبيعة شكوك بيرو من أرسطو الفيلسوف المتجول من القرن الثاني بعد الميلاد.
فلسفة بيرو الشكية:
دعونا ننظر في أسئلة وأجوبة بيرو بالترتيب:
1- أولاً ما هي الأشياء بطبيعتها؟ ويبدو هذا وكأنه سؤال ميتافيزيقي مباشر حول الطريقة التي يكون بها العالم بغض النظر عن تصوراتنا، وإذا كان الأمر كذلك يجب أن نتوقع أن تكون إجابة بيرو أنّ الأشياء متساوية اللامبالاة، وغير قابلة للقياس ولا يمكن الاستدلال عليها وأن تكون بيانًا ميتافيزيقيًا، ولكن هذا سيؤدي إلى صعوبات فكيف يمكن لبيرو أن يصل إلى الإعلان الواضح أنّ الأشياء غير محددة؟ أي ألّا تدحض بيانه الميتافيزيقي نفسه بإخبارنا ضمنيًا أنّ الأشياء غير محددة بالتأكيد؟
إذا أخذنا وجهة النظر هذه فقد ندافع عن بيرو من خلال السماح بإعفاء ادعائه من نطاقه الخاص، ولذلك يمكننا تحديد هذا القدر فقط أي كل خاصية لكل شيء غير محددة، وبدلاً من ذلك قد نسمح لبيرو باحتضان التناقض الظاهري والتأكيد على أنّ ادعاءه في حد ذاته ليس صحيحًا ولا خاطئًا ولكنه لا يمكن تحكيمه، ويبدو الخيار الأول مفضلًا بقدر ما يترك الخيار الأخير لبيرو بدون أي تأكيد واضح على الإطلاق، وبالتالي يصبح من غير الواضح كيف يمكنه استخلاص الاستنتاجات التي يقوم بها من الأول إلى الثاني.
من ناحية أخرى قد نسعى إلى تجنب هذه الصعوبات من خلال تفسير إجابة بيرو الأولى على أنّها معرفية، وبعد كل شيء تشير المسندات التي يستخدمها إلى وجود ادعاء معرفي، وعلاوة على ذلك يقدم أرسطوكليس مقطعًا بالإشارة إلى أنّه يجب علينا التحقيق في قدرتنا على المعرفة وادّعى أنّ بيرو كان المتحدث باسم الرأي القائل إننا لا نعرف شيئًا.
يجادل بيت (Bett) ضد القراءة المعرفية على أساس أنّها لا تعطي معنى جيدًا للمقطع كما هو، لأنّه إذا افترضنا القراءة المعرفية للأول بأننا غير قادرين على تحديد طبيعة الأشياء، فسيكون من غير المجدي أن نستنتج من ذلك الثاني أنّ حواسنا تكمن، وسيكون من المنطقي للغاية عكس الاستدلال: فقد يجادل المرء بشكل معقول بأنّ حواسنا تكذب، وبالتالي فإننا غير قادرين على تحديد طبيعة الأشياء.
وقد اقترح البعض إرسال النص من: “لهذا السبب (dia touto)” إلى “بسبب حقيقة أنّ (dia to)” لالتقاط هذا الانعكاس للاستدلال، ولكن إذا قرأنا النص كما هو فربما لا نزال نوضح تركيز أرسطو المعرفي بالإشارة إلى أنّه إذا كان الأول الأشياء غير محددة فإنّ الشك المعرفي سيكون نتيجة: الأشياء غير قابلة للتحديد.
ثانيًا ما هي الطريقة التي يجب أن نتحلى بها تجاه الأشياء؟ نظرًا لأنّ الأشياء غير محددة (بافتراض القراءة الميتافيزيقية) فلن يكون أي تأكيد صحيحًا ولكن لن يكون أي تأكيد خاطئًا، ولذلك لا ينبغي أن يكون لدينا أي رأي حول حقيقة أو زيف أي بيان، باستثناء ربما هذه التأكيدات المتشككة على مستوى ميتا(meta)، وبدلاً من ذلك يجب علينا فقط أن نقول ونفكر أنّ شيئًا ما ليس أكثر من ليس كذلك أو أنّ كليهما موجود ولا يوجد، أو لا يوجد ولا ليس كذلك لأنّه في الحقيقة هذه هي الأشياء.
ثالثًا ماذا ستكون النتيجة لأولئك الذين هم على هذا النحو؟ فالنتيجة الأولى هي عدم القدرة على الكلام (حرفيًا عدم قول أي شيء)، ولكن هذا غريب نظرًا لأننا تشجعنا على تبني شكل من أشكال الكلام في الثاني، وربما يأتي عدم القدرة على الكلام بعد القول في البداية فقط أنّ الأشياء ليست أكثر من ذلك وما إلى ذلك.
ثم أخيرًا يتبع ذلك التحرر من الاضطرابات، ومن المفترض أنّ الاعتراف بأنّ الأشياء لا يمكن السعي وراءها أكثر من السعي وراءها هو وسيلة لتحقيق الهدوء، لأنّه إذا لم يكن هناك شيء جيد أو سيئ في جوهره فليس لدينا سبب للشعور بالضيق أو السعادة المفرطة، ولكن بعد ذلك يبدو أننا لن نكون قادرين حتى على اختيار شيء على آخر، وهكذا يبدأ هدوء بيرو في الظهور كنوع من الشلل وهذا على الأرجح هو ما دفع ببعض الحكايات المثيرة.
يلاحظ ديوجين مع ذلك أنّه وفقًا لأنيسيديموس كان بيرو يمارس البصيرة في أنشطته اليومية وأنّه عاش حتى التسعين، ولذلك يبدو أنّ هدوءه لم يشلّه بعد كل شيء، وقد يكون هذا إما لأنّ بيرو (أو تيمون) كان مخادعًا بشأن ما كان عليه من الناحية الفكرية، أو بشكل أكثر إحسانًا لأنّه تابع المظاهر دون أن يلتزم أبدًا بالحقيقة أو زيف ما ظهر.