فلسفة العلوم للفيلسوف ميل

اقرأ في هذا المقال


كل المعرفة الاستنتاجية الحقيقية التي لدينا عن العالم مبررة باستخدام الاستقراء العددي البسيط، وهذا هو القائم بذاته والبنية الحاملة الوحيدة في منطق ميل، ويعتقد ميل أنّ المنطق الذي يحدث في انخراطنا العلمي مع العالم هو ببساطة تطبيق لنسخة دقيقة بشكل خاص من هذا الاستقراء العددي.

العلوم والاستقراء في فلسفة ميل:

لا يمكن أن يكون الإجراء العلمي أكثر من شكل محسّن من ذلك الذي اتبعه الفهم البشري بشكل بدائي بينما لم يوجهه العلم، ويأتي التحسين في المنهجية الاستقرائية من خلال الفحص الذاتي التأملي للعقل النظري، وهو الاعتبار الاستقرائي للاستقراء نفسه.

وتشهد التجربة أنّه من بين التوحيدات التي تقدمها أو يبدو أنّها تعرضها، وأنّه يجب الاعتماد على بعضها أكثر من غيرها، وهذا الأسلوب لتصحيح تعميم عن طريق الآخر وهو تعميم أضيق من خلال أوسع، وهو ما يقترح الفطرة السليمة و يتبنى في الممارسة، وهذا هو النوع الحقيقي من الاستقراء العلمي.

إن تاريخ العلم كما يراه ميل هو تاريخ نمو معرفتنا بالعقل الاستقرائي ولكنه أيضًا نمو معرفتنا بالعقل الاستقرائي، وعندما نتعلم المزيد عن العالم يصبح الاستقراء أكثر رسوخًا وبهذا يصبح انتقادًا ذاتيًا ومنهجيًا، وقد نكتشف بمجرد الملاحظة دون تجربة اتساقًا حقيقيًا في الطبيعة، ولكن حيثما كان ذلك ممكنًا فإنّ الانخراط في النشاط التجريبي هو الطريقة الأكثر مباشرة للكشف عن العلاقات السببية بين الأحداث، لأنّه يسمح لنا بمقابلة بعض السوابق بعيدًا عن البقية ومراقبة ما يليها، أو بعض العواقب وملاحظة ما سبقها.

فلسفة ميل في طرق استبعاد الظواهر المرصودة:

يدعي ميل أنّه مع تقدم العلم أنّه ظهرت أربع طرق ناجحة في عزل أسباب الظواهر المرصودة:

  1. طريقة الاتفاق: عندما تكون حالات الظاهرة (A) مصحوبة دائمًا بالظاهرة (A) حتى عندما تتنوع الظروف الأخرى المصاحبة لـ (A)، فلدينا سبب للاعتقاد بأنّ (A) و (A) مرتبطان سببيًا.
  2. طريقة الاختلاف: حيث السمة المميزة الوحيدة التي تميز المواقف التي تحدث فيها الظاهرة أو لا تحدث هي وجود أو عدم وجود الظاهرة (A)، وهناك سبب للاعتقاد بأنّ (A) جزء لا غنى عنه من سبب (A)، وإذا لاحظنا من خلال طريقة الاتفاق أنّه في جميع حالات (A) ،(a) موجود، يمكننا حيثما أمكن سحب (A) بشكل منهجي لتحديد ما إذا كان (A) هو سبب (a) بطريقة الاختلاف، وشروط ميل هذه هي الطريقة المشتركة للاتفاق والاختلاف.
  3. طريقة المخلفات: مقابل معرفة أنّ (A) هو سبب (a)، و (B) سبب (b)، حيث (ABC) يسبب (abc)، و (AB) يسبب فقط (ab)، يمكننا بواسطة مع استبعاد أنّ (c) هو التأثير المشترك لـ (AB)، ويعتبر (C) هو سبب (c).
  4. طريقة الاختلافات المصاحبة: عندما يختلف (a) عندما يختلف (A) بطريقة معينة، وقد يُعتقد أنّ (a) مرتبط سببيًا بـ (A).

يجب بالطبع تطبيق مثل هذه الأساليب بحذر فوجود ظروف الخلفية يجعل من الصعب القول على وجه اليقين أنّ أي ظاهرة فردية هي في الواقع العامل النشط سببيًا، وستكون النتائج دائمًا مؤقتة ومفتوحة لمزيد من التصحيح، ولكن من خلال الظروف المتغيرة بعناية كما يعتقد ميل يمكننا عزل الأسباب وكشف القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية.

الوصول إلى قوانين في فلسفة ميل:

نتعلم أولاً أنّ نشرح الأحداث الفردية من خلال إظهار أنّها أمثلة لقوانين سببية معروفة ومن ثم بطريقة مماثلة يُقال أنّ قانونًا أو توحيدًا في الطبيعة يتم شرحه، وعند الإشارة إلى قانون أو قوانين أخرى والتي من بينها القانون نفسه ليس سوى حالة.

ومن خلال التطبيق المستمر لقوانين الاستقراء، يمكن التحقق من أكثر قوانين الطبيعة عمومية وهذا هو الهدف النهائي للعلم، ويتبنى ميل حساب هيوم لقوانين مثل القواعد النظامية حيث لا يعني التعبير قوانين الطبيعة سوى التماثلات الموجودة بين الظواهر الطبيعية، ومع ذلك فهو يعتقد أنّ العلم يكشف عن البنية العميقة للعالم، وكيف تكون الأشياء حقيقية.

لم يضع كبلر ما تصوره في الحقائق لكنه رآه فيها، هذا يعني المفهوم ضمنيًا ويتوافق مع شيء تم تصوره، وعلى الرغم من أنّ المفهوم نفسه ليس في الحقائق ولكن في أذهاننا، ومع ذلك إذا كان لنقل أي معرفة تتعلق بها يجب أن يكون مفهومًا لشيء موجود بالفعل الحقائق، وبعض الممتلكات التي يمتلكونها بالفعل والتي ستظهر لأحاسيسنا إذا كانت حواسنا قادرة على إدراكها.

هل فلسفة ميل نهج واقعي؟

إصرار ميل على أنّ عملية العلم تتضمن إيجاد البنية الموجودة بالفعل في الطبيعة يعطي فلسفته توجهاً واقعياً، ولعل أوضح مثال على هذه الواقعية في عمله، ومع ذلك هو الادعاء بأنّ الأنواع لها وجود حقيقي في الطبيعة، ويرى ميل أنّ التحليل العلمي للطبيعة يكشف عن تمييز جذري في الأشياء نفسها.

بقدر ما يعتمد التصنيف الطبيعي على الأنواع الحقيقية فإنّ مجموعاته ليست تقليدية بالتأكيد، حيث صحيح تمامًا أنّهم لا يعتمدون على اختيار اعتباطي لعالم الطبيعة، ولا يتم تمييز هذه الأنواع من خلال امتلاك بعض الجوهر الميتافيزيقي، ولكن من خلال تمييزها عددًا غير محدد من الخصائص التي لا يمكن اشتقاقها من بعضها البعض، وتشترك بعض مجموعات الكائنات في الخصائص لأنّ تلك الخصائص هي أساس تجميعها معًا، وتشترك الأنواع الحقيقية في عدد غير معروف من أوجه التشابه لأنّ لها طبيعة مشتركة، وترتبط الفكرة ارتباطًا وثيقًا وإن لم يكن غير معقد بالمفهوم الحديث للنوع الطبيعي.

ولأنّ طبيعية ميل تلزمه بالمبدأ القائل بأنّ قوانين ملكتنا العقلانية لا يتم تعلمها إلّا من خلال رؤية الفاعل أثناء العمل، فإنّ البحث في المنهجية العلمية المتبعة في نظام المنطق يتخذ شكل نظرية التحقيق في الدروس المستفادة من تاريخ الممارسة العلمية الناجحة، وربما يكون من الغريب إذن أنّ ميل نفسه لم يكن مؤرخًا لعلم أي عمق حقيقي.

الفيلسوف ميل وتاريخ الممارسة العلمية:

وكمسألة تتعلق بالسيرة الذاتية فإنّ معرفة ميل بهذا الموضوع مشتقة أساسًا من مصادر ثانوية، وتاريخ العلوم الاستقرائي لوليام ويويل (William Whewell) ، وخطاب جون هيرشل (John Herschel) حول دراسة الفلسفة الطبيعية ودورات أوغست كونت في الفلسفة الإيجابية (August Comte’s Cours de Positive Philosophie)، وأقسام النظام التي جعل نداءً كبيرًا لتاريخ العلم مدينًا بشكل كبير للبحث الذي أجراه ألكسندر باين (Alexander Bain) نيابة عنه.

ولو كان ميل أكثر إلمامًا بتاريخ الممارسة العلمية الفعلية فمن المشكوك فيه ما إذا كان سيصر على أنّ قصة التقدم العلمي هي مجرد قصة الاستخدام المستمر للملاحظة والاستقراء، وما إذا كانت قوانين الاستقراء حقاً شاملة للطريقة التي أتاح بها البحث العلمي للإنسان اكتساب المعرفة بالعالم.

ومن المرجح أن تكشف دراسة أنثروبولوجية مفصلة عن تاريخ الممارسة العلمية الناجحة عن الاستخدام غير القابل للاختزال لصنع الفرضيات الخيالية، ناهيك عن تغيير الأسئلة والمثل العليا من النوع الذي أبرزه لاحقًا توماس كون (1962)، وكان هذا هو الأساس لنقاش تاريخي معياري واضح بين ويويل (Whewell) وميل، حيث قال الأول: “إنّ التفكير العلمي كان ويجب أن يشتمل على الإبداع المسبق للمفاهيم قبل اكتشاف القوانين”، بينما يدعي الأخير كما يمكن رؤيته في الاقتباس أعلاه، بحيث يمكن لهذه الملاحظة والاستقراء وحدهما تتبع الحقائق حول العالم واستنباط المفاهيم المستخدمة في العلوم.


شارك المقالة: