فلسفة القانون في القرن العشرين والوضعية القانونية

اقرأ في هذا المقال


كان القرن العشرين إلى حد كبير قرن الوضعية القانونية والشخصيتان البارزتان في فلسفة القانون هما القانوني النمساوي المولد هانز كيلسن والمنظر القانوني الإنجليزي هربرت هارت، وكلاهما طورا نسخًا مؤثرة من النظرية الوضعية لطبيعة القانون.

هانز كيلسن Hans Kelsen:

حدد كيلسن وهو معارض شرس لنظريات القانون الطبيعي، والمشكلة المركزية لفلسفة القانون على أنّها كيفية تفسير القوة المعيارية للقانون أي مطالبة القانون بإخبار الناس عن حق ما يجب عليهم فعله، ويعتقد كيلسن أيضًا أن أوامر القانون موجهة بشكل أساسي إلى مسؤولي النظام القانوني مثل القضاة لإخبارهم بالعقوبات التي يجب تطبيقها على المواطنين على أساس سلوك الأخير.

ورفض فكرة أنّ القوة المعيارية للقانون يمكن أن تنبع من وضعه الأخلاقي مثل كل المنظرين في التقليد الوضعي القانوني، واعترف بأنّ القوانين قد تفشل في أن تكون مبررة أخلاقياً.

تأثر كيلسن بشدة بالميول الكانطية الجديدة في الفلسفة الناطقة بالألمانية في أوائل القرن العشرين، وبالتالي فقد انجذب إلى إستراتيجية الجدل “التجاوزية” التي اشتهر بها إيمانويل كانط نظرًا لوجود بعض الظواهر غير المتنازع عليها، ويحق للفرد أن يستنتج أو يفترض وجود كل ما هو مطلوب لتفسيره، وبالنظر إلى الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أنّ القانون يطالب بالسلطة فإنّ الطريقة الوحيدة لتجنب الانحدار اللانهائي هي افتراض أنّ سلطة الوثيقة التأسيسية أو الدستور مشتقة من “قاعدة أساسية” (Grundnorm في الألمانية) وجوهرها شيء مثل ” يجب إطاعة الدستور “.

دافع كيلسن عن “نظرية خالصة” في القانون أي نظرية تهدف إلى تفسير معيارية القانون دون التذرع بأي حقائق تجريبية حول معتقدات الناس أو مواقفهم أو سلوكهم ومشكلة قاتلة مع الحجج المتعالية، ومع ذلك هي أنّها عرضة للاعتراضات القائمة على إنكار حقيقة ما تدعي النظرية شرحه من القوانين تدعي السلطة ولكن ربما تكون هذه السلطة واضحة فقط ببساطة غير واقعية، ولقد تجنبت نسخة هارت من الوضعية القانونية الحجج المتعالية ولكنها تعاملت بجدية مع نفس المشكلة الأساسية التي حركت نظرية القانون لكيلسن.

هربرت ليونيل أدولفوس هارت H.L.A. Hart:

صاغ هارت نظريته الذي أمضى حياته الأكاديمية في جامعة أكسفورد مركز حركة “اللغة العادية” المرتبطة بجون لانجشو أوستن ولودفيج فيتجنشتاين على أنّها محاولة لفهم العادي، فمفهوم القانون مفهوم مألوف لأي مواطن لنظام قانوني حديث متقدم، وانتقد هارت نظريات القانون المرتبطة بجون أوستن وبنتام بسبب فشلها في فهم كل تلك الأمثلة المألوفة للقوانين التي تمنح سلطات قانونية للأفراد بدلاً من إجبارهم على الامتناع عن سلوك معين تحت طائلة العقوبة.

قد يكون الحظر الجنائي للقتل أمرًا مدعومًا بالتهديد بالعقوبة لكن القانون الذي يصرح للفرد بإصدار وصية صحيحة بالتصرف في ممتلكاته بعد وفاته ليس كذلك، وقواعد منح السلطة هي سمات مركزية للأنظمة القانونية، وزعم هارت أنّ نظريات الأوامر لا يمكنها تفسيرها.

اعتقد هارت أنّ المشكلة ذهبت إلى أبعد من ذلك كما أنّ الفكرة المألوفة القائلة بأنّ جميع القوانين تتضمن عقوبات بشكل أساسي هي فكرة خاطئة أيضًا سواء في شكل وجهة نظر أوستن القائلة بأنّ كل قانون هو أمر مدعوم بالتهديد بالعقاب أو من وجهة نظر كيلسن القائلة بأن القوانين تخبر المسؤولين بموعد معاقبة المواطنين.

المشكلة وفقًا لهارت هي أنّ المرء يفكر عادةً في القانون على أنّه على الأقل في بعض الأحيان يفرض التزامات بالتصرف أو عدمه بطرق معينة، وإذا كان القانون يتعلق أساسًا بالتهديدات فإنّ الحديث عن وجود التزام لا معنى له، وباختصار اتفق هارت مع كيلسن على أنّ القانون يدعي نوعًا من السلطة وهو الحق في إخبار الناس بما يجب عليهم (أو لا ينبغي) فعله، وليس فقط ما يجب عليهم (أو لا يجب عليهم) القيام به تحت طائلة العقوبة.

ومع ذلك فإنّ حل هارت للمشكلة التي حددها كيلسن مختلف تمامًا، وادعى هارت أنّه حيثما يوجد نظام قانوني توجد أيضًا “قاعدة اعتراف” تحدد معايير الصلاحية القانونية التي يجب أن تفي بها أي قاعدة من أجل اعتبارها قاعدة لهذا النظام القانوني.

لكن قاعدة الاعتراف ليست من افتراضات Grundnorm أي افتراض متجاوز للفكر القانوني، وإنّها بالأحرى ظاهرة نفسية اجتماعية معقدة (مثال على ما أسماه هارت “القاعدة الاجتماعية”) والتي تم تأسيس وجودها ومحتواها من خلال الحقيقة الاجتماعية المتمثلة في أنّ مسؤولي النظام القانوني يلتقون حول معايير معينة للصلاحية القانونية ومن خلال الحقيقة النفسية القائلة بأنّ هذا يرى المسؤولون أنّ هذه المعايير إلزامية.

وبالتالي يعد دستور الولايات المتحدة مصدرًا للسلطة القانونية في النظام القانوني الأمريكي لأنّ جميع القضاة تقريبًا يتعاملون مع الدستورية كمعيار للصحة القانونية (القانون غير الدستوري لا يتم تطبيقه من قبل المحاكم) ويتصرفون ويتحدثون كما لو كان لديهم الالتزام بالقيام بذلك بالضبط.

نظرية هارت الوضعية للقانون هي إذن “غير نقية”على عكس كيلسن الذي ادعى هارت أنّ الطابع المعياري للقانون يمكن تفسيره من حيث الحقائق المعقدة حول سلوك ومواقف المسؤولين في النظام القانوني وخاصة القضاة، ومن المؤكد أنّ هارت اتفق مع كيلسن على أنّ القوانين قد تكون غير مبررة أخلاقياً، لكنه على عكس كيلسن اعتقد أنّ وجود القانون لا يعتمد بشكل أساسي على أكثر من الممارسات التقليدية للقضاة، وإذا توقف القضاة في الولايات المتحدة عن معاملة الدستور كمعيار للصلاحية القانونية فعندئذ لن يكون كذلك.

جوزيف راز Joseph Raz:

استكشف راز بعمق أكبر من هارت أو كيلسن فكرة أنّ القانون يدعي الحق في إخبار المواطنين بما يجب عليهم فعله وهو ما أطلق عليه راز مطالبة القانون بالسلطة، دافع راز عن “مفهوم الخدمة” للسلطة الذي يعتبر القانون موثوقًا به حقًا بقدر ما يساعد الأشخاص الخاضعين للقانون على القيام بما يجب عليهم فعله بشكل أفضل مما يفعلون دون وساطة توجيهات القانون.

بالطبع العديد من القوانين تفشل في تلبية هذا المعيار المتطلب لكن راز جادل أيضًا بأنّ قاعدة الاعتراف فقط التي تستخدم معايير قائمة على المصدر للصلاحية القانونية معايير مثل التي “يسنها البرلمان” أو “أعلنها الملك” ويمكن أن تمتلك سلطة حقيقية، والسبب بحسب راز هو أنّه إذا كان ما يقوله القانون لشخص ما غير مفهوم بشكل مستقل عن الأسباب الأخلاقية والأسباب الأخرى التي يقوم عليها فعندئذ لا يمكن للقانون أن يؤدي خدمة لأفراده.

وهكذا فإنّ نسخة راز من الوضعية القانونية تضمنت فكرة أنّ المعايير صالحة قانونيًا فقط بحكم مصدرها الاجتماعي، في هذا الصدد أعاد راز صياغة موضوعات من التقليد القيادي في الفترة الحديثة المبكرة ولا سيما فكرة أنّ القانون هو نظام من القواعد يلعب دورًا خاصًا في التفكير العملي لموضوعاته، ومع هوبز وبنتام أنّ محتوياته من تلك القواعد يجب أن يكون قابلاً للتحديد دون اللجوء إلى حجة أخلاقية مثيرة للجدل.

رونالد دوركين Ronald Dworkin:

على الرغم من انتصار الوضعية القانونية في القرن 20 إلّا أنّها لم تخلو من النقاد، ورونالد دوركين مثلاً جادل بأنّ التفكير الأخلاقي ضروري لحل الأسئلة الدستورية الصعبة وومع ذلك لم ينكر هارت هذا الادعاء، وما نفاه هو أنّ هذه الاعتبارات الأخلاقية كانت بالضرورة جزءًا من القانون ما لم تكن أيضًا جزءًا من قاعدة الاعتراف بالمجتمع.

كما جادل دوركين بأنّ تفسير هارت لقاعدة الاعتراف باعتباره ممارسة متقاربة للمسؤولين الذين اتخذوا موقفًا انعكاسيًا نقديًا لا يمكن أن يفسر سبب التزام هؤلاء المسؤولين بالإمتثال لقاعدة تم تصورها على هذا النحو ولكن لم يكن هدف هارت أبدًا إظهار أنّ المسؤولين ملزمون بتطبيق معايير معينة للصلاحية القانونية فقط لتوضيح الشروط اللازمة لوجود نظام قانوني، وأدرك هارت أنّ المسؤولين قد يتعاملون مع قاعدة الاعتراف على أنّها إلزامية لأنواع مختلفة من الأسباب كما أدرك أنّه قد يكون من الخطأ فعل ذلك.

توسع دوركين في عمله اللاحق في فكرة أنّ الاعتبارات الأخلاقية لها دور في تحديد ماهية القانون، وقال الآن إنّ كل ما يتبع أفضل “تفسير بناء” لقواعد النظام القانوني القائمة على المصدر مثل التشريعات التشريعية وقرارات المحكمة السابقة ويشكل قانون ذلك النظام.

إنّ التفسير البناء في المعنى التقني لدوكن هو الذي يسعى إلى شرح المعايير السابقة القائمة على المصدر من حيث بعض المبادئ الأخلاقية الأكثر عمومية حول الإنصاف والعدالة التي يقفون من أجلها والاعتماد على تلك المبادئ الأخلاقية التفسيرية لتوفير أخلاقيات جذابة تبرير النظام القانوني كما هو، وكان لوجهة نظر دوركين التي لم تجذب أي أتباع تقريبًا عواقب غريبة مفادها أنّه لا يمكن لأحد أن يعرف ما هو قانون النظام القانوني حيث لم يكن أحد قد فكر في أفضل تفسير بناء.

ففسر هارت دوركين على أنّه مجرد وصف لقاعدة الاعتراف بالنظم القانونية الأنجلو أمريكية وأنظمة القانون العام الأخرى، حيث يحاول القضاة إنتاج نوع من “التماسك المبدئي” بين قرارهم في القضية الحالية وقرارات المحكمة السابقة.

جون فينيس John Finnis:

اتخذ جون فينيس موقفًا فلسفيًا أكثر طموحًا ضد الوضعية مما فعله دوركين، وجادل بأنّ أي نظرية لظاهرة اجتماعية بما في ذلك القانون يجب أن تحدد حالاتها “المركزية”، لأنّ الهدف من أي نظرية هو وصف السمات المركزية أو المهمة للموضوع المعني.

الحالات المركزية للقانون وفقًا لفنيس هي الحالات التي يوجد فيها التزام أخلاقي حقيقي بطاعة القانون، وهكذا تعامل الفنلنديون على أنّها مهمة النظرية القانونية وهي تحديد خصائص الأنظمة القانونية الجيدة أخلاقياً بحيث تبرر طاعة أي شخص، ووافق هارت على أنّ فلسفة القانون يجب أن تركز على القضايا المركزية لكنه كان يعتقد أيضًا على عكس فينيس أنّه يمكن تحديد القضايا المركزية دون النظر إلى صفتها الأخلاقية، وفي الواقع كان طموح هارت هو شرح طبيعة القوانين والأنظمة القانونية التي يعرفها الناس العاديون على هذا النحو.

مشكلة النازيين وفلسفة القانون:

سلط نهج فينيس الضوء على مشكلة مركزية تلوح في الأفق حول الفلسفة القانونية بداية من النصف الثاني من القرن 20 أي ما يجب قوله عن النازيين، وما يبدو كان للنازيين نظام قانوني يصرح بمصادرة الحياة والممتلكات والحرية على أساس الدين والعرق.

لكن بعد الحرب العالمية الثانية حوكم المسؤولون النازيون وأدينوا وأُعدموا أحيانًا بسبب أفعالهم “المشروعة”، بالنسبة إلى الفنلنديين وبعض منظري القانون الطبيعي الآخرين لم يكن القانون النازي “قضية مركزية” من القانون ولكنه حالة معيبة منه، وبالتالي كان من المناسب مقاضاة المسؤولين النازيين لتصرفهم بطرق غير أخلاقية بشكل صارخ.

على النقيض من ذلك سعى هارت وغيره من الوضعيين القانونيين بروح هوبز وبينثام إلى فصل مسألة ما إذا كان للنازيين قانونًا ويبدو بالتأكيد كما لو أنّهم فعلوا ذلك في جميع النواحي تقريبًا عن مسألة ما إذا كانت قوانينهم فقط (لم يكونوا كذلك) وما إذا كان الطابع الأخلاقي البشع لتصرفات المسؤولين النازيين يجب أن يبرر العقاب على الرغم من أنّ الأفعال كانت قانونية.

بالنسبة لهارت التمييز بين السؤال “ما هو القانون؟” والسؤال “ما هو الصواب من الناحية الأخلاقية؟” له تأثير مفيد يتمثل في تذكير الناس بأنّه ليست كل القوانين جيدة من الناحية الأخلاقية وأنّ المسؤولين قد يخضعون للمساءلة حتى عن أفعالهم المشروعة عندما تكون تلك الأفعال شريرة بما فيه الكفاية.


شارك المقالة: