فلسفة بايل في مكافحة المنهجية

اقرأ في هذا المقال


كان الفيلسوف الفرنسي بيير بايل من الهوجوينوت أي بروتستانتي فرنسي، قضى كل حياته الإنتاجية تقريبًا كلاجئ في هولندا، وكانت حياته مكرسة بالكامل للمعرفة، وكانت سعة معرفته لا يعلى عليها في فترته أو ربما أي فترة أخرى.

فلسفة بايل في كتابه قاموس تاريخي ونقدي:

على الرغم من أنّ الكثير مما كتبه الفيلسوف بايل كان جزءًا لا يتجزأ من القضايا الدينية التقنية، إلّا أنّه ظل على مدار قرن من أكثر الفلاسفة قراءة، على وجه الخصوص كان كتابه قاموس تاريخي ونقدي  (Dictionnaire historyique et Critique) من بين أكثر الأعمال شعبية في القرن الثامن عشر.

يصعب وصف محتوى هذا العمل الضخم والغريب والرائع من حيث التاريخ وانتقاد أدبي وعلم اللاهوت وفاحشة وبالإضافة إلى العلاجات الفلسفية للتسامح ومشكلة الشر وأسئلة معرفية وأكثر من ذلك بكثير، وكان تأثيره على التنوير سواء كان مقصودًا أم لا تخريبيًا إلى حد كبير، حيث قال فولتير: “أعظم معلم في فن التفكير الذي كتب هو بايل، فهو عظيم وحكيم وكل الأنظمة تنقلب”.

فلسفة بايل ومكافحة المنهجية والانتظام:

في تاريخ الفلسفة الحديثة المبكرة يعد بيير بايل واحدًا من أكثر المفكرين إثارة للجدل والأقل فهماً في تلك الفترة، وعلى عكس الشخصيات الكنسية الأخرى في القرن السابع عشر لم يقدم بايل أي تنظيم واضح لمواقفه الفلسفية، بينما كتب بايل عن المشاكل الفلسفية واللاهوتية التي تتراوح من التسامح إلى مشكلة الشر ولم يقدم عرضًا نهائيًا أو كاملًا لأفكاره.

على الرغم من الشعبية الواسعة لقاموسه لا يُعتبر بايل فيلسوفًا قانونيًا، وربما يكون هذا بسبب الأفكار الفلسفية في عمل بايل مدفونة في الجدل اللاهوتي، والمواد المرجعية الغامضة والحجج الطويلة للغاية، ولقد تولى عدد قليل نسبيًا من العلماء المهمة الصعبة المتمثلة في التنقيب عن هذه الأفكار حتى وقت قريب.

يعتبر القاموس أحد أكثر النصوص إشكالية في الفترة الحديثة المبكرة، والمكان الواضح لبدء أي تفسير لفكر بايل، حيث كان هدف بايل المعلن في كتابة المعجم هو تحديث وتصحيح عمل قاموس لويس موريري التاريخي الكبير في عام 1674، كما اعتقد بايل أنّ قاموس موريري كان قديمًا وغير دقيق بشكل ميؤوس منه، وكان بايل يأمل في أن يحل عمله محل موريري كمرجع معياري، ومع ذلك فإنّ القاموس ليس موضوعيًا ولا شاملًا على الأقل وفقًا لمعايير اليوم.

غالبية صفحات القاموس ليست مخصصة حتى للمقالات العلمية نفسها، بل للملاحظات والهوامش التي يستخدمها بايل للتعبير عن أفكاره الخاصة حول مواضيع المقالات، أو حتى حول الموضوعات الأخرى التي تتعلق فقط بالموضوع بشكل عرضي من المقال، وعلاوة على ذلك تقدم بايل بشكل روتيني ادعاءات غير متسقة بشكل متبادل في جميع أنحاء القاموس.

ليست طبيعة القاموس غير المحددة والكثيفة والمتناقضة فقط هي التي تطرح مشكلة تفسيرية لعلماء بايل، وتتضخم المشكلة عندما يفحص المرء مجموعة بايل ككل، حيث الاتساع والتعقيد في عمله مذهل، كما تتنوع كتابة بايل في مجموعة متنوعة من الموضوعات والأنواع، من الخرافات إلى التفسير الإنجيلي وعلم الفلك والميتافيزيقيا، ومن النقد التاريخي إلى المراجعات الأدبية إلى المقالات الصحفية إلى الأطروحات اللاهوتية.

تشير إليزابيث لابروس (Elisabeth Labrousse) وهي باحثة مرموقة دوليًا في بايل، إلى أنّه عند المنعطفات يتحدث بايل لغة اللاهوتي الكالفيني أو كتيب الهوجوينوت أو تلميذ مالبرانش أو الطفل الروحي لإراسموس ومونتين وناودي، وعلاوة على ذلك كانت منحة بايل الدراسية في كل هذه الموضوعات وفي كل هذه الأنواع شاملة بشكل مرهق.

علمه تدريبه الأكاديمي في تولوز أن يفحص ليس فقط موقفه الخاص بشأن قضية معينة، ولكن أيضًا لفحص جميع الاعتراضات والردود المحتملة على منصبه بأكبر قدر ممكن من التفاصيل اللازمة لهدم خصمه، وتستشهد حججه بكل من المصادر التاريخية والمعاصرة ذات الصلة، وهي شهادة على كل من عقله الموسوعي وهوسه مدى الحياة بالاتجاهات الفكرية في عصره.

كما إنّ حجج بايل معقدة للغاية لدرجة أنّه غالبًا ما يكون من غير الواضح بالضبط ما هي المواقف التي من المفترض أن تدافع عنها الحجج، وكذلك يشير جان ديلفولفي (Jean Delvolvé) الباحث في أوائل القرن العشرين في بايل على نحو ملائم بأنّ أصالة أفكار بايل وافتقارها إلى البناء المنهجي، وانتشارها في كتلة عمل مطول إلى فائض، وعرضها المظلل والمغلف عن قصد، وذلك لأنّه يجب اكتشافها من خلال آلاف التكرار، ومن بين التأكيدات الخادعة على عكس ذلك، كل هذه الأسباب أعاقت فهم بايل من قبل معاصريه وأعاقته أخذ مكانه الصحيح في تاريخ الفكر الإنساني.

قراءات في عمل بايل الفلسفي:

أدت مفارقات عمل بايل إلى ظهور عدد من القراءات المختلفة لبايل ومنها:

1- أولاً تم الاستشهاد بالتعقيد والغموض الظاهر في حجج بايل كدليل على أنّه يجب قراءة بايل في المقام الأول على أنّه ناقد ساخر، ووفقًا لهذه القراءة لبايل فإنّ جميع حججه التي تدافع ظاهريًا عن المواقف التقليدية هي في الحقيقة مجرد أدوات لانتقادات التنوير البدائية لتلك المواقف نفسها.

إنّ اكتمال حجج بايل وتفانيه في إعادة البناء الخيري لحجج خصمه ليس دليلاً على دراسة بايل المسؤولة، بل هو بالأحرى فرصة له لتعزيز آرائه التخريبية، حيث أنّ هذه الآراء هي في الواقع آراء بايل مدعومة بالردود المتناقضة والحجج المضادة الضعيفة التي يقدمها ردًا على اتهامات خصومه، ووفقًا لهذا فإنّ قبول بايل الواضح لما يبدو أنّه تناقضات معادية للفكر من قبل عقل متطور فلسفيًا يوفر الدعم لقراءة بايل كنوع من التخريب المناهض للتقليد.

2- ثانيًا القراءة البديلة لبايل هي نوع من التقليدية المعقدة، ولا تعكس البنية المعقدة لحجج بايل نقدًا هدامًا أو حتى اللاأدرية العقلانية وذلك وفقًا لهذه القراءة، بل بدلاً من ذلك فهو يعكس رغبة بايل في أن يُظهر لخصومه من خلال الاختزال إلى حد العبث، مفارقات العقل فيما يتعلق بالميتافيزيقيا بشكل عام، وفيما يتعلق باللاهوت الفلسفي على وجه الخصوص.

يقدم هذا الاختزال للعقل تفسيراً لاستخدام بايل للحجج الفلسفية الصارمة وتأكيده الصريح للمفارقات الظاهرة، وهذه القراءة لبايل كفيلسوف يستخدم العقل لنزع سلاح نفسه لا تتوافق فقط مع التزامه بالحجة المسؤولة، ولكن أيضًا مع الدليل على تمسكه مدى الحياة بالروحانية التقليدية.

قاومت القراءات الأخيرة لبايل حتى محاولات جعله إما ناقدًا ساخرًا أو تقليديًا معقدًا، وتدرك هذه القراءة غير المنتظمة لبايل الغموض والصعوبات المتعددة الكامنة في أي محاولة لتقديم تفسير منهجي لبايل، ووفقًا لهذه القراءة فإنّ طبيعة نصوص بايل تحظر تثبيت أي نوع من التفسير الفردي لفكره، وإنّ أكثر ما يميز فكر بايل ليس السخرية أو التقليد بل طابعه الحواري وتفكيره متعدد الألحان.

تسمح نصوص بايل باستمرار للأصوات المتعددة بالتحدث باستقلالية، وبدلاً من استخدامها كوسيلة للتعبير عن آرائه، وبالتالي فإنّ فرض منهجية مصطنعة على النص لخلق صوت واحد أو تفسير واحد يعد خطأً تفسيريًا فادحًا، وبعبارة أخرى فإنّ الإغراء النموذجي لفرض الاتساق الداخلي على نصوص بايل حتى الاتساق المتشكك لن يكون مجرد خطأ تأويلي، وسيكون فلسفيًا لأنّه سيتطلب السعي لتحقيق الاتساق بين الحجج التي تدافع عن المواقف المتعارضة.


شارك المقالة: