من الصعب المبالغة في تأثير الفيلسوف موريس بلانشوت على منظري ما بعد البنيويين اللاحقين مثل جاك دريدا، وسيكون من الخطأ الحديث عن عمله من منظور نظرية متماسكة وشاملة، لأنّه عمل قائم على التناقض والاستحالة، وإذا كان هناك خيط يمر عبر كل كتاباته فهو الانخراط المستمر في مسألة الأدب، وهو تشريع متزامن واستجواب لتجربة الكتابة الغريبة للغاية، فبالنسبة إليه: “يبدأ الأدب في اللحظة التي يصبح فيها الأدب سؤالًا”.
مفهوم المحايد:
المحايد هو أحد أصعب المفاهيم في جهاز بلانشوت النقدي، وقد نفكر بشكل عرضي في المحايد على أنّه نوع من الجنس الثالث يعارض الجنس الذكري أو الأنثوي بشكل صارم، ولكن هذا نهج يرفضه بلانشوت، ويصر على أنّ المحايد ليس جنسًا أو نوعًا من أي نوع، حيث إنّها ليست فئة من الكائنات.
في الواقع بالنسبة إلى بلانشوت فإنّ المحايد منفصل عن كل ما هو مرئي وغير مرئي وكل شيء حاضر وغائب، كما إنّه قابل للقياس مع موضوع لا يقل عن شيء، فالمحايد ليس من هذا العالم أو أي عالم آخر في هذا الشأن، ومع ذلك فهو ليس متعاليًا بأي حال من الأحوال، ويقف المحايد خارج الكل وكل وحدة وكل اتحاد، كما إنّها تسحب نفسها أو تمحو نفسها في اللحظة ذاتها التي تنطق بها أو نقشت عليها، فالمحايد هو على وجه التحديد اسم (مجهول الاسم) لحركة الفكر التي تجذب كل كلمة وكل مفهوم بلا توقف نحو خارجه والآخر.
من الناحية العملية يستحضر المحايد قدرة الكلمة على التعليق والإدلاء على نفسها بطريقة تجعلها تتوقف عن الإشارة إلى ما تدل عليه، وتبدأ في الانجراف إلى عدم تحديد المعاني المتعددة، والمحايد هو نوع من مبدأ الاختلاف والتمايز الأصلي الذي يشروط ويهدد تثبيت جميع أشكال الهوية الذاتية والمعنى والحقيقة.
ومن ثم فهو يحمل أوجه تشابه مذهلة مع اختلاف دريدا إلى الحد الذي يجعل المحايد يثبت عدم تطابق اللغة مع نفسها، وإذا تم فهم اللغة من منظور العلاقات التفاضلية بين الإشارات فإنّ المحايد هو الذي جلب دائمًا هذا الاختلاف حيز التنفيذ، فالمحايد هو ما يعرض كل كلمة إلى ما لا نهاية من المعاني مما يجعل اللغة ممكنة بشرط أن يتم اجتيازها باستمرار من خلال تغيير جذري يسبقها ويتجاوزها.
أثر مصطلح المحايد على فلسفة بلانشوت:
كان اكتشاف بلانشوت للمحايد (في أوائل الستينيات بهذا المعنى على الرغم من استخدام المصطلح سابقًا في كتاباته) ذا تأثير كبير على تطوير فكره ككل، فمن المعروف على نطاق واسع أنّ جميع الفصول تقريبًا في نص بلانشوت لعام 1969 المحادثة اللانهائية قد نُشرت سابقًا كمقالات منفصلة في مجلات مثل (Nouvelle Revue française).
بشكل ملحوظ تم تعديل العديد من هذه المقالات الأصلية بشكل كبير بواسطة بلانشوت في السنوات التي انقضت بين نشرها الأولي (بعضها يعود إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي) وإدراجها النهائي في صفحات المحادثة اللانهائية، وتعكس هذه المراجعات تحولًا في عمل بلانشوت بدأ يحدث في الستينيات وقد أثر ذلك على وجهات نظره حول الوجود واللغة والفلسفة بشكل كبير.
وكجزء لا يتجزأ من هذا التحول هو ظهور المحايد في نظرية وكتابات بلانشوت، وتعكس تنقيحاته التي أدت إلى نشر (The Infinite Conversation) هذا الوعي المتزايد بقدرة المحايد على إزاحة وتعليق وإلغاء أسس لغة الفلسفة التي يشترطها.
وهكذا في إصدارات 1969 التي أعيد نشرها في مقالاته السابقة وضع بلانشوت اقتباسات مخيفة حول الكلمتين (الوجود) و(الموجود)، واستبدل كلمة (شعارات) بكلمة (اختلاف)، واستبدال المصطلحين (غير شخصي) و(مجهول) (محايد)، فهذه التغييرات ليست سوى تجميلية.
بدلاً من ذلك فهي تعكس جهدًا منسقًا من جانب بلانشوت لتأكيد أثر الآخر والاختلاف في صميم الفلسفة واللغة، وبأي حال من الأحوال فإنّ ظهور المحايد في كتابات بلانشوت في الستينيات ليس مجرد تمرين في علم المعاني، ويسير جنبًا إلى جنب مع التركيز المتزايد على الأخلاقالسياسية التي تأتي في المقدمة في عمله في نفس الوقت تقريبًا، وإلى حد كبير استجابة للتطورات في فكر ليفيناس.
يكتب بلانشوت: “حيث يلوح الآخر فجأة ويلزم الفكر بمغادرة نفسه، تمامًا كما يُلزم الذات بمواجهة الزلة التي تشكلها والتي تحمي نفسها منها، وتم تمييزها بالفعل مهدبة بالفعل من قبل المحايد”، ففي كتابه كتابة الكارثة يدعو بلانشوت إلى المحايد إلى جانب مفاهيم الخارج الكارثة والعودة: “أربع رياح لغياب الروح … أسماء الفكر عندما تترك نفسها تتراجع، وتفتت بالكتابة”.
ويشير المحايد مثل الكارثة إلى حركة فكرية تتجاوز المعنى، مما يجعل المعنى ممكنًا (بشرط ألّا يكون متطابقًا مع نفسه أبدًا)، ومعًا تشكل هذه المفاهيم أكثر استعارات بلانشوت تفصيلا صرامة للتفكير (عدم التفكير في) التغيير المطلق للخارج.
فلسفة بلانشوت في كتابه كتابة الكارثة:
يظهر العديد من هذه الموضوعات والمفاهيم مرة أخرى في كتابه عام 1980 كتابة الكارثة (The Writing of the Disaster)، وذلك تكمله فقط مجموعة أوسع إلى حد ما من الموضوعات والتأكيدات المصاحبة، ويوجد هنا إشارات صريحة إلى ليفيناس فالعنصر الأساسي في نصوص بلانشوت منذ أوائل الستينيات وكذلك هيجل، ولكن هذه المصادر الدائمة للإلهام والاستفزاز مصحوبة الآن بمجموعة من الأصوات الأخرى غير المتوقعة.
ويكرس بلانشوت مساحة للتعامل مع المحللين النفسيين مثل سيرج ليكلير ودونالد وودز وينيكوت حول موضوعات النرجسية والمشهد البدائي، حيث يشير إلى لملفيل بارتلبي، ويقدم شذرات عن دريدا و دولوز وجوتاري، فهوس هايدجر بأصل الكلمة وآراء نيتشه حول اليهود من بين العديد من الموضوعات الأخرى.
في قلب نص بلانشوت فكرة الكارثة نفسها، فليس فقط مرادفًا للهولوكوست أو القوة التشتتية للمحايد أو الموت الضروري المستحيل، الذي سبق ودمّر كل تركيب لإتقان أناني ذاتي، ويتضمن تعدد المعاني للكارثة آثارًا لكل من هذه المعاني، دون أن يتم اختزالها بأي شكل من الأشكال إلى معنى أو مفهوم واحد ثابت.
فلسفة بلانشوت في مفهوم الكارثة:
بشكل حاسم تظل الكارثة خارج كل وجود وما وراء التمثيل ومنفصلة عن الإمكانات والحقيقة، حيث إنّه غير ذلك كليًا من الوجود أو عدم الوجود، ومع ذلك على الرغم من المظهر الخارجي (والأقدمية) للكارثة فيما يتعلق بكل من هذه المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية، فإنّ الكارثة هي التي تضفي على كل من هذه المفاهيم معناها الخاص، وبشرط ألّا يتطابق هذا المعنى تمامًا مع نفسه.
لطالما لامست الكارثة وسكنت وعرّضت للخطر ودمرت كل صرح دنيوي قائم على الاستقرار والشمولية والوحدة قبل أن يتم تأسيسها، فالكارثة هي اسم لما يحول كل موضوع وكل نص وكل قصة تاريخية وكل نظام سياسي خارج نفسه بلا توقف نحو التغيير الجذري الذي يفلت من غلافه ويعمل كشرط للإمكانية والاستحالة.
تبع بلانشوت هذا الذي يمكن القول بأنّه نصه الأكثر تحديًا بنص آخر مهم وهو (المجتمع غير القابل للاستعمال) في أواخر عام 1983، وهنا يرسم بلانشوت بالإشارة إلى باتايلي والروائية مارغريت دوراس من بين آخرين، وإعادة التفكير في مفهوم المجتمع باعتباره غير قابل للاختزال ولمفاهيم الهوية الذاتية والوجود، وصدر كتاب صغير بعنوان صوت من مكان آخر في عام 1992 ونُشر كتاب أخير ومذهل من الرواية القصيرة بعنوان لحظة موتي في عام 1994.